Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Feb-2017

جدل "الهُويّات": الهُويّة الدّينيّة بين السّعة والضّيق (2) - د. نارت قاخون
 
الغد- حدّثنا المفكّر الكبير جورج طرابيشي –رحمه الله- فقال: ألقيت محاضرة عن "مصائر الفلسفة بين المسيحيّة والإسلام" –والتي صدرت موسّعة في كتاب- في مركز ثقافيّ "أوروبيّ" في العاصمة دمشق، وفكّكت في هذه المحاضرة الفكرة التي روّج لها بعض المستشرقين وتلقّاها بعض كبار المثقّفين العرب دون نقد وتمحيص، وهي فكرة أنّ "الإسلام" ديناً وتجربة كان معادياً للفلسفة بخلاف "المسيحيّة" التي تبنّت "الفلسفة" و"الفكر الفلسفيّ"، فكان ذلك أحد أسباب التّقدّم والنّهضة في الغرب. فبيّنتُ بالأدلّة – والحديث لطرابيشيّ- أنّ التّجربة الإسلاميّة كانت أرحب وأغنى في التعاطي مع الفلسفة ولا سيّما إذا ما قارنّا بين القرون الأولى في التجربتين المسيحيّة والإسلاميّة.
بعد انتهاء المحاضرة جاءت إليّ سفيرة دولة أوروبيّة فسألتني: لماذا تمدح "الآخر" على حساب نفسك؟ هل هذه ضريبة قبوله بك؟ فقلتُ لها: من تقصدين بـ"الآخر" هنا؟ وأنا أعلم ما تقصد. فقالت: الإسلام والمسلمين. فقلتُ لها: يا سيّدتي، لم يكن "الإسلام" جزءاً من "الآخر" من منظوري، ولا من منظور المسيحيّين العرب، "الإسلام" هو هويّتنا الحضاريّة، فأنا عربيّ مسيحيّ شكّلت الثّقافة العربيّة هويّتي، والبعد الحضاريّ في الإسلام هو أحد أهمّ عناصر الثّقافة العربيّة بل أهمّها.
هذا الكلام الذي قاله جورج طرابيشي رحمه الله سمعتُه بأذني وعقلي منه شخصيّاً في لقاء جمع مجموعة من كبار المثقّفين والمفكّرين على هامش برنامج تلفزيونيّ حواريّ كان يصوّر في تسعينيّات القرن العشرين. وحين قال ما قاله، أظهر المستمعون إعجابهم بهذه الرؤية لمفهوم "الهويّة" وموقع "الإسلام" من الهويّة الحضاريّة للمسيحيّين العرب.
مضت سنوات وأصدر طرابيشي –رحمه الله- كتابه المهمّ "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث"، الذي يبيّن التحوّلات التي أصابت المركزيّة المعرفيّة في الخبرة المسلمة، وآثار هذه التّحوّلات حين تحوّل المركز من "القرآن" إلى "المرويّات الحديثيّة".
وتشاء الظّروف أن أجتمع بأحد المفكّرين "الإسلاميّين" المعروفين بـ"التّجديد والتّنوير"، وله إسهامات واضحة في تجديد الرؤية والنّظر في مسائل مهمّة من الفكر الدّينيّ الإسلاميّ، وكان حاضراً لذلك اللّقاء الذي تحدّث به طرابيشي عن حواره مع "السّفيرة الأوروبيّة"، وأذكر أنّه أظهر إعجاباً وتقديراً كبيرين لجواب طرابيشي حينها.
تطرّق حديثنا مع هذا "المفكّر الإسلاميّ التنويريّ" إلى كتاب "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث"، فلم يخفِ هذا المفكّر تحفّظه على الكتاب. وليس في ذلك أيّ مشكلة؛ فالفكر والمعرفة لا بدّ أن يخضعا للنّقد والجدال والرفض والقبول، ولكن الّذي لفت نظري بشدّة تعليق أخير لهذا المفكّر التنويريّ قاله على سبيل "فصل الخطاب"، حين قال: لا تنسَ أنّ جورج طرابيشي "مسيحيّ"، وهذا لا بدّ أن يجعل نظرته وقراءته للتّراث الإسلاميّ "مشوّشة" و"منقوصة"!
هذه الحادثة أو الحادثتان تلقيان بظلال "ثقيلة" على كثير من قضايا الهويّة وجدل الضّمائر و"قلقها" في راهننا العربيّ والإسلاميّ؛ فـ"جورج طرابيشيّ" الذي تصالح بوعي حضاريّ وثقافيّ وإنسانيّ مع مكوّنات "هويّته"، فلم يرَ أيّ تناقض بين هويّة دينيّة هي "المسيحيّة"، وهويّة قوميّة هي "العربيّة"، وهويّة حضاريّة هي "الإسلاميّة"، وجد مَن لا يتقبّل هذا الانسجام فأصرّ على حصر هويّته في مكوّن واحد هو "الدّين"؛ فالسّفيرة الأوروبيّة رأت في مسيحيّة طرابيشي سبباً ليكون "آخر" الإسلام، فهو جزء من "الغرب المسيحيّ" وأقرب له من "الثّقافة الإسلاميّة"! وكذلك فعل هذا "المفكّر الإسلاميّ التنويريّ" حين "ضاق به" الجدل والنّقاش الفكريّ فأعاد تعريف "طرابيشيّ" بـ"هويّته الدّينيّة" متغافلاً عن حجم الدّراسات وعمقها التي قدّمها طرابيشي في قراءة التّراث الإسلاميّ عقيدة وفقهاً وخبرة حضاريّة. هذا إضافة إلى تجاوز الدّور النقديّ المعرفيّ الذي مارسه طرابيشي على مفهوم "الهويّة الدّينيّة" نفسها؛ فالمسيحيّة نفسها لم تكن عند طرابيشي مكوّناً هويّاتيّاً بالمعنى التّقليديّ للهويّة الدّينيّة، وهذا ما يزعمه كثير من المفكّرين التّنويرييّن حين معالجة سؤال "الهويّة الإسلاميّة" أيضاً، فهم يوسّعون هذه الهويّة لتتجاوز محدّدات "الدّين" بالمعنى "العقديّ والتعبديّ" إلى آفاق "الأبعاد الحضاريّة والإنسانيّة" للدّين بوصفه مؤسّسة من مؤسّسات الفعل الحضاريّ في الخبرة الإنسانيّة.
مشكلة هذه المفاهيم الحضاريّة للهويّات؛ دينيّة وقوميّة، أنّها تتمتّع بتوسّع جميل، وجاذبيّة فكريّة تتعرّض للتضييق والاستقطاب حين يشتدّ جدل "الضمائر" ويدخل في "التفاصيل"؛ فالهويّات كما جميع المفاهيم تكمن مشكلاتها وقوّتها أيضاً في "تفاصيلها" وليس في الأطر العامة التي تصلح لحديث المنتديات العامة؛ فالهويّة الإسلاميّة بتوسّعها إلى البعد الحضاريّ لا تفعل ذلك دون حضور كبير لمنظورها الدّينيّ؛ فالهُويّة الدّينيّة تقوم على تصوّر مشترك لميتافيزيقا الوجود يقدّم الإجابات والمعاني لأسئلة الحياة والبقاء والنّماء والفناء أيضاً، ولأنّ هذا التّصوّر كان محكوماً بجدل شديد بين العموميّة التصنيفيّة، والتفصيليّة التّصنيفيّة ممّا أدّى إلى اختلاف في تقدير حدود المشترك من التّصوّرات التي تجعل أصحاب هذه التّصوّرات منتمين لدين "واحد"، ولأنّ الأديان ولا سيّما في الخبرة التّوحيديّة منها أقامت تصوّرها على مفهوم "الواحديّة" و"التوحيديّة" في النّظر إلى سيرة الكون والإنسان، اتّجهت بتأثير من هذا المفهوم نحو "التّفاضليّة" لا "التّكامليّة"؛ فالتّصوّرات "التوحيديّة" تقدّم نفسها بوصفها تصوّرات "نموذجيّة"، بل هي "النّموذج الأوحد". وهذه الخبرة التّوحيديّة انقسمت في مسارها اتّجاهين؛ اتّجاه يرى في هذا التّصوّر نموذجاً "احتكاريّاً اقتصاريّاً" في الصّوابيّة والانتشار، فهذا التّصوّر تملكه فئة دون النّاس ولا تسعى لنشره بين "الأغيار"، فهم لا يملكون حقّ تملّكه وتصوّره، وتمثّل هذا الاتّجاه في "اليهوديّة"، بينما اتّجهت "المسيحيّة" و"الإسلام" نحو نموذج توحيديّ يقوم على "احتكاريّة الصّواب" ولكن مع "عموميّة الانتشار"، فأمست المعادلة: نحن نملك التّصوّر الصحيح الوحيد لميتافيزيقا الوجود، ولكنّه تصوّر يجب على الجميع أو "الآخر" أن يقرّ به ويدخل تحت دلالته التصنيفيّة، لذلك كانت المسيحيّة والإسلام أدياناً "دعويّة" و"تبشيريّة" تسعى بكلّ الوسائل الممكنة لحلّ مشكلة الاختلاف في التّصوّرات الدّينيّة عبر "الإقناع" مرّة وعبر "الإكراه" مرّات أخرى، ولم تكن تقبل ببقاء الآخر على ما هو عليه إلا حين "تعجز" عن إقناعه أو "إكراهه" غالباً، لذلك صارت حدود مقبوليّتها للآخر محكومة بمدى "العجز". ولكن لشدّة هيمنة مفهوم "الاحتكاريّة الصّوابيّة" احتالت على "العجز الواقعيّ" الذي فرض عليها التكامل التّصنيفيّ في "دنيا الواقع" بإحالة "التفاضل التّصنيفيّ" إلى عالم "الآخرة والحساب"، فأصبح الاعتراف بالآخر الدّينيّ إجراء آنيّاً مؤقّتاً فرضته حدود العجز الدّنيويّ، وهو اعتراف لا يُمكن تصوّره دون آثار لهيمنة التصوّر التفاضليّ الأخرويّ؛ فعلاقتنا بـ"الآخر الدّينيّ" ستصاب بـ"الحساسيّة" كلّما اشتبكت هذه العلاقة بمرجعيّة تصوّراتنا الدّينيّة، وإذا كانت "تصوّراتنا الدّينيّة" متماهيّة مع كلّ أفعالنا وأفكارنا الحياتيّة، فإنّ هذه الحساسيّة ستكون حاضرة وفاعلة في كلّ فعل وعلاقة إنسانيّة ومجتمعيّة مهما كان الواقع يفرض علينا ضرورة التّعامل مع "الآخر الدّينيّ".
وأرى أنّه لا سبيل لتجاوز هذه الحساسيّات إلا بوسائل منها: زحزحة "الهُويّة الدّينيّة" عن مركزيّتها وعموميّتها وشموليّتها، أو تجاوز مفهوم "الاضطرار" بوصفه مكوّن القبول وتقبّل الآخر والاعتراف به، أو توسيع مفهوم هذا الاضطرار ليصبح تقبّل الآخرين ضرورة وجوديّة حياتيّة غير مشروطة بسياقات القوّة والضّعف بل مشروطة بالوجود الإنسانيّ نفسه.
وأيّاً كانت الوسائل فهي بحاجة إلى جهد كبير في إعادة النّظر في التّصوّرات الدّينيّة ووظائف "الهُويّة الدّينيّة"، فهناك من يتّهم هذه الوسائل بأنّها تروم أو ستصل إلى تعطيل التّصوّرات الدّينيّة نفسها؛ فإن لم يكن للمعاني الدّينيّة صفة تصنيفيّة تفاضليّة تمتلئ بـ"الصّواب" المُميّز لـ"الأنا" و"الـ"نحن" عن "الآخرين" لم يعد لهذه المعاني قوّة تصوّريّة ووظيفيّة. ولهذا الحديث بقيّة.
*ملاحظة منهجيّة: الحادثتان الواردتان في هذا المقال جاءتا في سياق "المثل والتمثيل" لا "الاستدلال والدّليل"، فالحوادث المنفردة والمواقف الشّخصيّة لا تؤخذ مأخذ الدّليل والاستدلال على فكرة أو قضيّة، فغاية ما فيها أن توضّح الفكرة، فليست "السّفيرة" حجّة على "الغرب" كلّه، وإن مثّلت جزءاً من تفكيره، وكذلك "المفكّر الإسلاميّ التنويريّ" لا يعبّر إلا عن نفسه أو من كان مثله، وليس حجّة على الخطاب التجديديّ، والأمر نفسه ينطبق على جورج طرابيشي. كما أنّ غرض ذكر الحادثتين لا يتقاطع بالضّرورة موافقة أو مخالفة مع رؤية طرابيشي في كتابيه المذكورين.