في الذكرى الـ60 لمولده حبيب الزيودي.. الراعي الذي شبّبَ على قلبِه المثقوب
الدستور-نضال برقان
بينَ منازلِ الأهلِ تارةً، وبينَ الغيومِ تارةً أخرى، كنتَ، ولمْ تزلْ، تتطوّفُ مُـشبّـبًا لِلحياةِ، لِلرعاةِ، لِعمّانَ، مِن دونِ أن تُلامسَ أصابعُكَ ثقوبَ الناي، فقد كنتَ تُشبّبُ على قلبِكَ «المثقوب..».
أناجيكَ، وبي رغبةٌ لأناديكَ بأحدِ أسمائِك السرّيّةِ: يا «ولد الجنون»، كما سميّت نفسَكَ ذات قصيدةٍ. يا «ناي البراري»، الاسم الذي وسمتَ نفسَك به، وأنتَ تقفُ على عتبةِ البداياتِ، ذاتَ رغبةٍ في إعلانِ التمردِ والخروجِ على تقاليدَ أتعبتكَ وراهنٍ مستبدٍّ بـ»المهمشين» في بريّة الدنيا. يا أيها «الغريب»، الذي قالَ في نفسِه ذاتَ مُكاشفةٍ وكشْفٍ: «أنا الغريبُ الذي لا نارَ تؤنسُه».. «أسيرُ كلّ صباحٍ لا أرى أحدًا، رغمَ الزحامِ الذي ألقاه في الطرقِ».
بِغضّ النظرِ عن اسمك، في أحوالِكِ كلّها كنتَ «حبيبًا»، وكذلك ستبقى..
كنتَ حاضرًا في وجدانِ الأردنيين كغيمةٍ نديّةٍ، ونايٍ أطربَ وأشجى، وكذلك ستبقى..
لم يزدكَ الغيابُ إلا حضورًا. لم تزدك المسافةُ إلا قربًا. لم يزدك الموتُ إلا حياة.
يا قصيدتَنا الأبهي والأصدقَ والأنقى، لأننا أضعنا بداياتِنا، فإننا نتغنى بِبداياتِكَ، بِذلك الـ»دمع المقفى»، يا صاحبَ «القميصِ البرتقالي» الذي كانت له صولاتٌ وجولاتٌ أمامَ «مدرسة البنات»، لقد مُزّقتْ قمصانُنا من قُبُلٍ ومن دُبُرٍ، وغدونا عراةً بعد أن خانتنا الأيامُ، ولم نستطع أن نديرَ الشعرَ في أعناقها «..سيفا».
أتأمّلُ مرآتَكَ..، أرى فارسًا قد خرجَ معتدًا بذاتِه، مِن تلكَ المُكاشفةِ/المواجهةِ مع نموذجِه الأبهى في فضاءِ القصيدةِ، شاعرِ الأردنِّ (عرار)، بعدَ علاقةٍ طالما اتخذت بعدًا دراميًا صاخبًا، عبرَ رحلةِ الانتقالِ من طورِ التَـلمَذةِ: (إني عبدتك ألف عامِ)، ومن ثمّ البحثِ عن الخصوصيةِ والهويةِ والوسمِ الخاص: (واليوم لي وشمي وباديتي وقُطعاني أمامي)، وصولا إلى طور الاستقلالية والنديّة: (ندان نحن اليوم يا أبتي على سفح الكلامِ).
أتأمّلُ مرآتَكَ..، أرى شاعرًا مجنحًا وحكيمًا، أخلصَ في ترجمة مشاعرِ وأحاسيسِ أبناءَ وطنِهِ إبّـانَ رحيلِ قائدهم الفذّ، الباني، الملك الحسين، واستلامِ جلالةِ الملكِ عبد الله الثاني سلطاته الدستورية، في العام 1999، فقد كانت مشاعرَ متضاربةً، وأحاسيسَ مختلطةً، بينَ حزنٍ على ملكٍ محبوبٍ راحلٍ، واستبشارٍ للخيرِ بملكٍ شابٍ وطموحٍ، وقد ترجمت قصائدُكَ، الفصيحةُ منها والعاميةُ، تلكَ المشاعرَ والأحاسيسَ بصدقٍ وعفويةٍ، وأدواتٍ فنيّةٍ عاليةٍ، ما جعلَ الناسَ يستقبلونها بالكثيرِ من الطمأنينةِ والفرح.
ها أنا ذا أيّها الحبيبُ، بينما يترقّبُ الناسُ ذكرى رحيلِك، في السابع والعشرين من تشرين الأول، لوداعِ حياتِك وهي مدبرة، فإنني أقفُ في مهبِّ ذكرى مولدكَ، التي صادفت يوم امس لأعانقَ حياتَك، قصيدتَك، ودمعتَك، بكل ما فيها من قلقٍ وألقٍ، وهي... مقبلة.
***
أتنأى؟ لا وربِّكَ! ثمّ كيفا *** وصوتُكَ لم يزلْ «دمعـًا مُقـفـى»
أراكَ، تهيمُ في الطرقات وجدًا *** وكلُّ الكونِ في عينيك.. منفى
ونايُكَ في الجهات أخو وفاءٍ *** وريحُ الغدرِ.. ها تزدادُ عسفا
تَـبدّى لِلخيانةِ ألفُ رأسٍ *** وليسَ فتىً يديرُ الشِعرَ سيفا
ويزدادُ الملا غدرًا وعتمًا *** ونجمُكَ لم يزلْ يزدادُ نـزفا
أيا (ولدَ الجنون).. أيا (الغريبُ).. *** أتنأى؟ لا وربِّـكَ! ثم (كـ.. يـ.. فـ.. ا)