الدستور-د. زياد أبولبن
من اللافت للنظر عنوان الرواية «مَنُّ السَّما»، التي صدرت عن (دار العائدون للنشر) في عمّان لعام 2020، الذي يشكّل عتبة كبرى، فالقارئ قد يدفعه السؤال حول العنوان (مَنّ السَّما)، ومع يحمله من دلالة ترتبط بأحداث الرواية، ليتمحور السؤال في مركزية الرواية نفسها، تلك المركزية التي تتخذ من المكان بؤرة لإقليم كردستان في العراق، وما جرى هناك من قتل ودمار وحرق واغتصاب وسجن من جماعات «داعش»، بل من إبادة جماعية، وما تعرضت له النساء اليزيديات من اغتصاب وبيعهنّ جواري في سوق الرقيق، وقد جاء إهداء الرواية «إليهنّ حين كنّ، إلى تسع عشرة امرأة من ظلال». و»مَنّ السَّما» هو الاسم المتداول لحلوى المَنّ في كردستان، وبما أنّ عيش اليزيديين في إقليمهم يشبه تلك الحلوى، فقد انقلب عيشهم لجحيم داعشي سيعانون منه سنوات طويلة. وكما أفضت الكاتبة باختيار هذا العنوان لروايتها قد قصدت «أنّ العالم وصل إلى مرحلة من الفساد والخراب والبؤس غير قابل للاصلاح إلا بتدخل إلهي».
تبدو شخصية «عهد» بطلة الرواية مثقفة مغامرة قوية، تختلف عن نساء عصرها، فهي ترصد مشاهد الحروب والدمار والقتل والاغتصاب في أكثر من بلد من بلدان العالم، يؤهلها عملها في منظمة الأمم المتحدة، وهي مسؤول حقوق الإنسان في مكتب المفوضية، وناشطة في حقوق الإنسان من سورية، ولعلّ عمل الكاتبة (غصون رحال) في منظمات إقليمية ودولية لحقوق الإنسان قد أتاح خبرات ومعارف وظّفتها في الرواية.
تودّع «عهد» أمُّها وأباها وأخاها رامي في مطار دمشق متّجهة إلى مقرّ عملها في «جنيف»، فهي ابنة مناضل فلسطينيّ يُقيم في مخيم اليرموك في سورية، ذاك المخيم الذي لقي الدمار على يد داعش، فـ «عهد» تحمل ذكريات الماضي، ما بين التهجير من فلسطين وما بين طفولة تترك وراءها عذابات الماضي، كما تحمل ذكريات الحاضر الممزق بخيبات المستقبل.
يقوم البناء السرديّ في الرواية على الصور والأمكنة والأزمنة والشخوص والتفاصيل الصغيرة، فهي صور متلاحقة ومتشظية في الوقت نفسه، كما أنّ الأمكنة موزعة في عوالم يحتكم لصراع البشر، والأزمنة مرتبطة بتسارع الأحداث، وتعدد الشخصيات، وإنّ التفاصيل في الرواية تشتت ذهنية القارئ في التقاط مفاصل الأحداث، مما جعلها حكاية يصعب السيطرة عليها من قراءة أولى أو واحدة.
تبرز شخصية «ميرال» وشخصية «سامح» إلى جانب شخصيات أخرى، تلك الشخصيات تدفع بتفعيل أحداث الرواية، لكن تبقى شخصية «عهد» هي الشخصية الرئيسة أو بطلة الرواية، وليس فقط ترصد المشاهد في أمكنة متعددة، بل تسجّل مواقف حاسمة من تلك الأحداث، وتشخّصها من خلال رؤيتها لعالم متغيّر، فمجلس الأمن الدولي ليس بعيداً عن صورته في التعامل مع تلك الأحداث، وإنما هو سبب بلاء ما يحدث من صراعات دموية تفضي للدمار جسدياً ونفسياً، وعلى لسان الساردة تقول: «وعلى ذكر مجلس الأمن، يقفز «شمشون» من نشرة الأخبار موسوساً لي بأنّ فوق هذه الأرض «كراكن» آخر، له خمسة رؤوس يقطن مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك، يتولّى رسم مصائر البشر، ونشر الفوضى الخلاقة في أرجاء هذا العالم، كأنّه يُشعل حرباً هناك، ويعقد حلفاً هنا، أو يستبدل منظمة إرهابية بأُخرى»، هذا المجلس بعضوية الدول العظمى الخمس، هو سبب البلاء، وهنا صورة متحركة لما يجري في الخفاء، في أروقة المجلس وعلى طاولته.
ترصد «عهد» محطات عديدة في العالم، بما يُسمى بؤر التوتر بعلم السياسة، صورة ما يحدث في غزة وهجوم إسرائيل على كتائب القسام، الجناح العسكري، ولحظات أسر الجندي (جلعاد شاليط)، في المقابل صورة أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في مخيّم اليرموك باعتباره ساحة حرب في سورية، كما هي صورة مخيّم «حسن شام» في شمال كردستان، وصورة سقوط الموصل بيد داعش، وصورة اعتداءات جنسية قامت بها قوات حفظ السلام الفرنسية في (بانغي) عاصمة إفريقيا الوسطى، وصورة ما حدث في قندهار – أفغانستان، وصورة الحرب العراقية الإيرانية، وصورة عاصفة الصحراء عام 1991، وصورة انتخابات أحمدي نجاد في إيران عام 2009، وقمع المظاهرات بالقتل والاعتقالات، وصورة تنظيم داعش في ليبيا، وصورة الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، وصورة مخيمات النازحين السوريين في تركيا ولبنان والأردن. كلّ هذه الصور ترصدها عين «عهد» ككاميرا سينمائية متحركة، تثير في ذهنية القارئ أسئلة الحياة والموت في معادلة فلسفية لهذا الوجود.
مما يلفت النظر في حياة «عهد» ملامحها الذكورية الناتجة عن الخلل الهرموني الذي تسبب به والدها منذ الطفولة مما هزّ ثقتها بأنوثتها، وجعل علاقتها بالرجل تبدو غامضة ومضطربة. بالإضافة إلى شعورها الدائم بالذنب تجاه والدتها؛ بسبب مقتل أخيها أثناء المظاهرات السورية، تسبب لها بحالة من الأرق المزمن أرغمتها على مراجعة الطبيب النفسي الذي لم تجد لديه الخلاص المنشود، فقررت العودة إلى سورية لتواجه مصيراً مجهولاً لا تعرف تبعاته. استطاعت الكاتبة أنْ توظّف هذه التداعيات والاشتباك النفسي والجسدي في الرواية توظيفاً جمالياً من خلال تيار الوعي بما يحمله من مونولوجات وأحلام ورؤى.
تستعيد ذاكرة «عهد» حرب 1948 و1967 وهزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل، وما بين استعادة الماضي وتحولات الحاضر واقع ممزوج بالخيال، فالكاتبة لا تسرد الواقع بلسان الساردة «عهد» كما هو، وإنّما بخيال خصب، وبجماليات اللغة وما تحمله من دلالات تجعل من النص ملحمة تاريخية تقوم على مفارقات عجيبة، وقد جاءت الرواية على فصول خمس، ولكل فصل عناوين أشبه ما تكون بعتبات صُغرى للرواية، بما تحمله من دلالات تُميط اللثام عن أحداثها، لتختم الرواية بعبارة دالة: «من كانوا يشغلون المقاعد ما عادوا أحياءً، وهذا ما سيظلّ عالقاً في الذاكرة».
يبقى القول، تُعدّ الرواية إضافة جديدة في السرديات الحديثة، وقد استطاعت غصون رحال في روايتها «مَنّ السّما» توظيف التاريخ كمسرد متخيل بتقنيات الرواية الحديثة، ووعي اللحظة الراهنة في اشتباك السرد المتخيل مع الواقع.