Saturday 27th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    10-Nov-2017

تجاوز الذات: من حُبّ الكتب إلى إهدائها - معاذ بني عامر

 

 
(1)
الغد- اعتدتُ مؤخراً أن أترك الكتاب الذي أنهي قراءته في أي مكان أنهيه فيه: مقهى، حديقة، مقعد للاستراحة. فلَكَم آمنت أن أفضل مكان لمكتبتي هو في عقول الآخرين، لا على الرفوف. وقد كانت إحدى وسائل تنفيذ هذا المشروع هو ترك الكتب حيث أنهيها، حتى لو وقعت بين يدي أناس لا يحبّون القراءة أو يتعاملون باستخفاف مع الكتب. فالتأسيس لوعي جديد يتطلب حفراً طويلاً، حتى يتسنّى تغيير –تغييراً ناعماً وسلساً- ما قرَّ في الأعماق، لناحية النفور من الكتاب بشكل خاص والمعرفة بشكلٍ عام.
بالعودة خطوة إلى الخلف، كنتُ حتى العام 2008 أنانيـاً فيما يتعلق بملكيتي لكتبي، فقد كنت حريصاً عليها أيما حرص، إلى درجة أني عانيتُ مما يمكنني الاصطلاح عليه بمتلازمة الكتب، التي سببت لي خللاً في بنيتي النفسية. فالشعور القهري الذي يمارسه كتاب بحقّ صاحبه، لأن شخصاً ما استعاره استعارة طويلة أو استعاره ولم يعده أو استعاره وفقده؛ هو شعور يحطّ من قيمة الإنسان المعنوية، في حين أنه يمنحه نوعاً من الفائقية المادية، فهو يمتلك ما لا يمتلكه غيره. 
لكن منذ ذلك العام بدأتُ رحلة التحـرّر من هذا القهر الاختياري، إلى درجة بدأت أشعر أنّ تجـاوزي لذاتي، عبر مشاركة الآخرين لما أملك من كتب هو انتصار لمُدونتي الأخلاقيـة أو لما أسميه عادة بـ طهارة القلب؛ على نظرتـي التملكية التي تقوم على نزعـة أنانية بالدرجة الأولـى. فالجدل القائم بيني وبين نفسي أفضى إلى انتصارٍ لفكرةِ الكينونة على فكرة التملّك، بلغة "إريك فروم". ففي الثانيـة (= فكرة التملّك) تتأكد الذات الأنانيـة المُحبة لنفسها من دون الآخرين، وفي الأولى ( = فكرة الكينونـة) تتأكد الذات العابرة إلى الذوات الأخرى، والمُشاركة لهم في اجتراح اجتماع إنساني سوي.
وقد كان لرحلة التحـرّر هذه أن تنتقل نقلة جوهريـة ونوعيـة في الفتـرة الأخيـرة، فقد أخبرني الصديق الفنان "رائد أبو زهرة" أن أحد الأطفال قد أهداه كتاب (الإسلام بين الشرق والغرب) لـ "علي عزت بيغوبيتش"، وقد كان الطفل قد تلقّى الكتاب من صبيةٍ طلبت منه أن يقوم بإهداء الكتاب لشخصٍ يُحبّه، فوقع اختيار ذلك الطفل على "رائد أبو زهرة" لأنه شاهد بعض لوحاته فأحبها وأحبّ صاحبها.
المفارقـة ليست في الكتاب بحدّ ذاته، رغم ما تحمله عمليـة الإهداء من صبيةٍ وطفل من دلالات وجدانيـة عميقة في مجتمع يجنح يوماً إثر يوم ناحيـة تصلّب في المشاعر والأحاسيس. بل المفارقة داخل الكتاب، فقد احتوى على مجموعة من المغلفات التي تضمنت مجموعة من الاقتباسات، سواء من الكتاب أو من غيره لها علاقة بموضوع الكتاب؛ إلا أنّ المغلف الأخيـر كان قد احتوى على مبلغٍ من المال، لكي يتسنى للشخص الذي أُهْدِيَ له الكتاب أن يقوم بدعوةٍ صديق أو صديقة على فنجان قهوة أو كأس من الشاي، ويتناقشان حول الكتاب.
في غمرة انشغالي بواقع ومآلات الوضع الثقافي، بما هو كائن وما يجب أن يكون، كنت قد ركّزت لفترةٍ طويلة على اهتمامات القرّاء العقلية، في حين أني نسيتُ اهتماماتهم المادية. لكن تلك الصبية البهية وذلك الصبي البديع، علّماني درساً كبيراً وجوهرياً على المستوى المعرفي، فقمة العبقرية أن يندمج الفعل الثقافي العقلي في المعيش اليومي؛ المعنوي مع المادي. فَلَكم هي بهجة أن يترك المـرء كتاباً في حديقة أو مقهى، فيجده 1 - شخص يحب القراءة، فيأخذ الكتاب والمال معاً، ليخلق متعة مزدوجة واحدة تطوّر بنيته الفوقية وأخرى تطوّر بنيته التحتية. 2 - شخص لا يحبّ القراءة، فيجد فيه مالاً يُفرح قلبه ويستفيد منه في معيشه اليومي، فيأخذ المال ويترك الكتاب فيستفيد منه شخص آخر. 
(2)
قد يتحصّل الإنسان على بعض المكاسب في حال كان أنانياً، لكنه سيتحصّل على العالَم في حال كان فردانياً. فالشعور المرافق للإنسان وهو يعبر ذاته الوعرة، الشرسة، التملكيـة، هو شعور إنساني بالدرجة الأولى، يسعى في نهاية المطاف إلى تعميق كينونته وتفتيح مساماتها المغلقة. فهو إذ يتجاوز ذاته، لكي يترك شيئاً من ذاته الخيـّرة لدى الآخرين، عبر المساهمة في تقديم المفيد لهم مادياً ومعنوياً، عقلياً وجسدياً؛ فإنه يلملم ذاته المبثوثة في ثنايا هذا العالَم، وذلك عبر استعادة غيرية، حبّية، حميمية، مع شُركاء الاجتماع الإنساني.