الدستور-رمزي الغزوي
في لحظة جنونٍ فارقة قرّر الفتى الذي كنته، المدجّجُ بالقصائد والأحلام والرؤى أن يدرس الفيزياء بعد الثانوية العامة كاسراً آفاق توقع كل من حوله من أهل ومعلمين وزملاء، فالبوصلة طالما أشارت ومنذ أن كان في الرابع الأساسي إلى أنه سيدرس الآداب؛ إسناداً لمشروع كتابي ظل يتوهج كلما انتقل إلى صف أعلى.
رفض بعثتين دراسيتين قدمتهما وزارة التعليم العالي، الأولى لدراسة الاقتصاد في تركيا، والثانية للآداب في المغرب، وقايضهما ببعثة الفيزياء في بغداد وقت كانت جيوش العالم تتحمحم لضربها خريف 1990. الفتى كان يومها مضغوطاً تحت هاجسين اثنين، الأول خيالي شطح به حدَّ أن الفيزياء ستمكنه من صنع قنبلة نووية يسترد بها كرامة أمته العربية، والثاني أنها لربما تكون جسراً سريعاً إلى وظيفة يعين بها أهله بتربية ثمانية إخوة كان أكبرهم.
لم تمنعني دراسة الفيزياء في الجامعة التي أطلقت عليها تسمية «العمة الكبرى» من تعاطي الآدب وكتابة الشعر والقصة بل خلقت في روحي دافعية عظيمة حين منحتني منصة الخيال الكبرى، وجعلتني كثيراً في واحد بكل ما تعنيه هذه الجملة. بعدها لم تنعكس أصداء العمة على كتاباتي وأفكاري وأحلامي فحسب، بل قدمت لي جواز سفر أحمر عبرت به حدود شتى العلوم، فالفيزياء لمن يعرفها مفتاح سحري لا تبقي بابا إلا وتفتحه، وهذا ما أكسبني ميزة مختلفة في نتاجي الأدبي والمعرفي والحياتي.
ستجد رائحة العمة الكبرى في قصائدي وقصصي ومطالعاتي، وحين ولجت عالم المقال الصحفي جعلتني الفيزياء بنكهة غير التي تسود بلاط صاحبة الجلالة، ليس في نوعية الكلمات والخيال الخصب، بل في طريقة التفكير العلمي التي ربتنا عليها تلك العمة وعبر نصيحتها الأبدية ألا نقبل الشيء إلا بدليله.
دفعني الطفل الذي في داخلي بحب نحو أدب أحبه وأخشاه في آن واحد، أدب الأطفال، فهو يمنحني عودة ندية إلى طفولتي الخصبة، دون أن أبارح خشيتي ألا أقاربه المقاربة التي تجدي نفعا وجمالاً. فالكتابة للطفل في نظري فعل ارتقاء لا انحدار، ولهذا يسعدني الآن، وبعد مسيرة قاربت الربع قرن أنني راعيت وحابيت ذلك الطفل الذي يسكنني وأسكنه، فمن بين ثلاثة وعشرين كتابا أصدرتها بشتى ضروب الأدب، كان منها أربعة أعمال لليافعين، صدر أخرها قبل شهرين بعنوان «تحت نهر المجرة»، وهو من يوميات يافع عماني، وثلاث روايات هي «قمر ورد» ، «قرش في كأس ماء» و»بندوفاح»، بالإضافة إلى أربع مجموعات قصصية هي «أنطلق بسرعة الضوء»، «الشمس نجوم تتجمع»، «أصابعي ترى»، و»دموع الليل».
في كل الأعمال تلك كان الخيال مصعدي الأمثل المتين، الذي أرتقي فيه إلى عوالم كنت أعيشها، وأشتهي أن أعيشها، والفيزياء مكنتني أن أمزج تلك العوالم بالواقع اليومي المعاش بسلاسة وخفة ودون انفعال وتقصد يعشقه الأطفال والفتيان.
رؤيتي في أدب الأطفال حكمتها ثيمة كبرى، وهي أن الكتابة لهم يجب أن تكون مفيدة فاتحة للآفاق إلى جوار أن تكون ممتعة في الدرجة الأولى، فأنا من أنصار مبدأ «العلم بالمتعة واللعب» دون أن أتجاهل ذكاء الطفل وقدره فأنا أراه أعظم من ذكائي وخيالي، ولهذا يمقتني أن تظل الكتابة لهم حبيسة نمطية قال جدي قالت جدتي.
بأسلوب بسيط ممتع ألتذُّ به أولاً دمجت العلم بالأدب في محتوى قصصي ورواياتي. وهذا أسلوب غير مطروق في عالمنا العربي بشكل كبير. في القصص اتخذت الظواهر الطبيعية التي يلتفت إليها الأطفال وحملتها بقوانين الفيزياء والكيمياء والفلك وعلم الأحياء ورحت أنسج بها عالما طريفا يجنح إلى الدعابة والتشويق ويعتني بالخيال، ولا يمكن للطفل إلا أن يدخلها ويقرأها من هناك، وهذه الطريقة هي الأنجع في عالم أدب الأطفال، طريقة القراءة من الداخل.
سرت في كل مجموعاتي القصصية للطفولة على ذلك النهج، ولكن بأسلوب يتغير ويتبدل، ليس في كل مجموعة فحسب، بل في كل قصة، كان الطفل يتعلم القوانين التي يواجهها في منهاجه المدرسي بشكل لذيذ ودون كبير عناء وتقصد، كان يتعلمها وكأنه يلعب، وهذا رهاني الذي أحسب أني كسبته.
في رواية قمر ورد مثلا قدمت صورة غير نمطية لعيش الحياة، مع سعيها لتلمس مواطن الجمال في أبسط أشيائها مع تكتيك مزج العلوم في الحياة اليومية التي يستصعب اليافعون تناولها بالأدب بطريقة تحترم ذكاءهم، وتقدّر قدراتهم على إلتقاط الخيوط المتباعدة، وغزلها بنوال العقل مبتعداً بهم عن التلقين المدرسي المنفر، والوعظ الأبوي التقليدي، والتعالي الذي تفرضه بعض المناهج المدرسية.
وفي روايتي الثانية جعلت اليافع شريكاً في صنع أحداثها، بل كاتباً لها أحياناً، فأقحمته عبر لغز منزلي بسيط إلى عوالمها، وجعلته يتذوق حلاوة الكشف العلمي لظواهر نعيشها ونحياها، والأهم أن الرواية تجعل من اليافع منصة لإطلاق التساؤلات؛ التي أراها المفاتيح الحقيقية للعلم.
وفي رواية «بندوفاح» التي تخوض في الخيال العلمي فقد استندت إلى هواجسين كبيرين يشغلان البشرية منذ القدم، الإبحار عبر الزمن، بما فيه العودة إلى الماضي أو السفر نحو المستقبل، وامتلاك القدرة على تحويل الأشياء الرخيصة إلى نفيسة، مع ملاحظة أني تركت لمتن الرواية، وقصصها المتتابعة القصيرة، ألا تقيم وزنا للخوف من طرح أية فكرة جريئة وغريبة، لقناعتي أن لليافعين قدرة على رؤية الأشياء بشكل يرضي أنفسهم التوّاقة إلى كل جديد، وأنهم قادرون على اكتشاف ذواتهم بكل أبعادها.
في المجل قدمت أفكاراً علمية من شأنها أن تخصّب تفكير اليافع وخياله، وتحلق به نحو مستويات من الفائدة والمتعة معاً، وهذا نابع من إيماني العميق، كوني أكاديميا جامعيا ومعلما مدرسياً سابقا، بأن التعليم لا بد أن ترافقه المتعة وتجلله، فاليافع ليس وعاء يملأ، ولكنه قنديل يذكا.
وبعدُ، فإني أرى أن من يتصدونَ لأدب الطفل اليافع في عالمنا ليسوا على قدر مناسب من الإبداع والثقافة والإطلاع والشغف بالبحث والتجريب، لسبب بسيط هو النظرة المتعالية، من أن الكتابة لليافعين تعد فعل انحدار لا ارتقاء، ولهذا نحتاج نقلة نوعية في هذا الأدب التأسيسي، كي يأخذ دوره الحقيقي بإعادة تشكيل اليافع العربي.
*ورقة العلم التي قدمت في ندوة أدب الأطفال في الاردني التي عقدتها مؤسسة عبدالحميد شومان يوم السبت 16 أيلول 2023