Sunday 11th of May 2025 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    15-Sep-2023

مجموعة صلصال لهشام مقدادي.. الأنثى إذ تكشف أسرار الوجود

 الدستور-سامر حيدر المجالي

تحضر الأنثى حضورًا لافتًا في المجموعة القصصية «صلصال» للقاصِّ الأردني هشام مقدادي، الفائز عن مجموعته هذه بجائزة الدولة التشجيعية في مجال القصة القصيرة للعام 2021.
وما بين القصة الأولى «قُدّاس»، والسابعة عشرة «ونظر نظرة»، تتعدَّد المواقف، لكن تبقى الأنثى مهيمنة؛ بدءًا من ظهورها بوصفها أمًّا تُلقي تعويذةً تحفظ ولدها من الأذى، وصولًا إلى خاتمةٍ تكون فيها ابنةً يحمل أبوها همَّها مَعَهُ حتى الممات.
خلال ذلك، يتشكَّل وجودها على صور عدَّة؛ فهي حينًا ثائرة على مجتمعها، ترحل عنه باحثة عن تحقيق ذاتها (طرف المعادلة)، وحينًا حبيبة تحتَ ناقوس الخطر وإكراهات مجتمع لم يفارق عُقَدَه النفسية بعد (ماذا لو)، أو امرأة وفية صابرة لزوج مُقعَد (تك تاك تك تاك)، أو زوجة خانت رجلَها حين وجدته يسير إلى الانهيار (القُبلة المبلَّلة)، أو ضحية حرب نجا جسدها من الويلات لكنْ بقيت روحها عالقة في تبعات الحرب وآثارها (الندبة، الآمال المعلقة، السلالم المتحركة).
وتَعدُّدُ السياقات الأنثوية التي اكتفينا بذكر جزءٍ منها فحسب، ليس غاية ينتهي عندها الكلام؛ إذ للكاتب في هذه المجموعة رؤيته الفلسفية التي أرادت أن تُوظّف الأنثى كي تبلغ بالقارئ أفقًا أعلى ذا ملامح وجودية واضحة.
يبدو هذا الزعم مبرّرًا بدءًا من قصة «صلصال» التي جاءت ثانية في ترتيب قصص المجموعة، وفيها يتنقَّل البطل بين ثلاثة عوالم هي: جسد امرأته المصقول، وصلصالُ صنعتِهِ الذي يشكّله بين يديه، وحلقات الذكر الصوفية التي يفنى فيها عن العالم.
وتنكشف العلاقة بين العوالم على لسان البطل؛ فجسد زوجته مصنوع من الطين الذي هو بحسب رأيه: «عجينة الله التي خلق منها أجسادنا البالية، وإذ أُمسكُهُ بكلتا يديَّ أشعر بتلك الرهبة التي تضعني أمام نشأتي الأولى» (ص: 13). ويشعر البطل بالرهبة نفسها حين يعالج الصلصال أثناء عمله، إذ يمسك: «كتلة الطين برفق، فلربما حوت رفات أجساد اختلطت من تراكم الموتى، فأمست أديمًا لهذه الأرض» (ص: 13). ويعود خلال السرد ليخبر القارئ بأن خصر الإناء يذكّره بخصر زوجته، وجريان الماء فوق تضاريسها الجسدية هو في الوقت نفسه جريان الماء الذي يشكّل الإناء بعد أن يغمس الصانع راحتيه فيه فتدور كتلة الطين. وكما تدور كتلة الطين، يدور هو في حلقات الذكر، فينسكب النور، ويبلغ نشوته الروحية، ويتكور جسده على: «السجادة المحفوفة بالذكر واللهاث والعرق» (ص: 15).
إن الذاكرَ إذ يعتصر الدعاء ماءً، يحقّق لقارئه في نهاية القصة لحظة تنوير مدهشة، ليجمع العوالم الثلاثة في فكرة واحدة: ولادة وحياة وتشكلات؛ ذاك هو قدر الصلصال الذي لن يفارقه. ولعل هذه هي الثيمة؛ فنحن الصلصاليين، نسير دائما إلى الأمام، لكنَّ الماضي يلاحقنا في كل خطوة.
لذا، ستنتقل بطلة «طرف المعادلة» بين عالمين واصفة المسافات بينهما بأنها: «أبعد مما كنت أظنها» (ص: 18)، رغم ذلك لا تفارقها الذكريات، وتنهمك في وصف تفاصيل الماضي! ويبتلع العامُّ الخاصَّ في «ماذا لو» ليبدوا عالمين لا يمكن حتى للحب أن يلغي المسافة الفاصلة بينهما، أما ذكريات الزوجة المحبة في «تك تاك تك تاك» فتمزج الماضي بالحاضر لتجاوز هوة الألم التي خلَّفها مرض زوجها في نفسها، وهي أيضا الحالة التي يواجهها الزوجُ الفاقدُ زوجتَه الميتةَ في «إطار أسود» بعد أن يتوهَّم القارئ شيئًا آخر، بيد أن اللحظة التنويرية في القصة تضعه أمام المفارقة الكبرى، فيعود البطل إلى رشده ويخبر القارئ بالحقيقة التي تنطوي على كثير من الألم والحنين: «فأنا وحدي الذي لا يراها من الإطار الأسود المعلَّق على الحائط» (ص: 66). في كل الأحوال يفرض الماضي سطوته، والألم لا يجلب حلًّا، والهلوسات لن تعيد المفقود، وقدر الصلصال أن يرتحل دون توقف.
وتبدو الفكرة مُشعَّة كذلك في مجموعة من القصص تحضر فيها الحرب، ويخيّم عليها سواد الفقد والغربة؛ ففي قصة «السلالم المتحركة» تغادر البطلة موطنها مكرهة بعد أن فقدت أختها وابنة أختها الطفلة، رغم ذلك يعاود الماضي، في شخص طليقها، حضوره فينكأ الألم الذي كاد يُنسى بعد حين. وفي «الندبة» تفقد البطلة والديها، وتقرر أن تتجاوز الندبة التي خلَّفتها الحرب في وجهها، لتحملها راضية بها إلى الأبد؛ فذاك هو سبيلها الوحيد المتاح أمامها. وفي «أمل مُعلَّق» تكاد البطلة تتجاوز محنتها، لكنَّ جسد أبيها المتدلي من شجرة يعيدها إلى عمق المأساة، بينما عاد المقاتل في «سفربرلك» ليعيش الفقد، فلما خطا مبتعدًا بعد أن علم أن ليس هناك من ينتظره كان الغبار: «يعلو مخلِّفًا سحبًا تتبع جوالة جددًا يبحثون عن رجال جدد لحرب ستطول» (ص: 86).
الزمن في مجموعة القصص هذه، كينونة واحدة متصلة متواشجة، والذات تحمل إرثها على ظهرها في كل خطوة تسيرها إلى الأمام.
ولعل أسلوب الكاتب أسهم في تكريس هذه الفكرة؛ فلغته المحسوبة بدقة، وعباراته المتداخلة، وفقراته التي تمتزج فيها الأزمنة، هذه العوامل تُفقد القارئ اتزانه أمام الهلوسات والذكريات الأليمة والأوهام والأمنيات المكبونة. ورب ضارة نافعة، وحبذا لو كانت مقصودة، ففوضى علامات الترقيم بين الكلمات والعبارات، ونكوصها عن أداء دورها المعهود، هذان العاملان خدما فكرة التواشجات واتصال الأزمنة اتصالا مربكًا يتطلَّب قارئًا خبيرًا قادرًا على تفكيك العبارات، والنظر إلى كل قصة نظرة تعيد تجميع نسقها الداخلي، وتحفظ لها وحدتها التخيُّلية الكامنة في سطورها.
ولعل في الاقتباس التالي مثالًا ينير لنا الفكرة السابقة، ففيه تداخلٌ لمراحل الحدث جميعها خلال قصة «الندبة»، مع ما يشوبه من تقسيم مربك للعبارات:
«مليون ليرة، وانتهت المساومة بعدها، أقف أمام المركز الطبي، أتلمَّس الدفعة الأولى من ثمن المعمل، الشمس التي ما زالت تمد الظل صباحًا، تعتلي الأفق على مهل، علت ضحكات العمال، وهم يتحلقون المائدة، ويمسحون بقايا قمر الدين عن أيديهم، بملابسهم الدبقة، يقطّع أبي الدجاج، فيما توزع أمي الخبز، وتلقمني شريحة من الكُبّاد، تيبست قدماي عند الدرجة الأخيرة، عيناه اللتان تغمرانني حنانًا، ودفئًا، ويداها الناعمتان، مسحتا شعري ووجنتي، نظرا إليَّ وابتسما، تسارعت دقات قلبي، لم أستطع اجتياز الباب الزجاجي للعيادة، ركضت نحو الشارع، تباطأت خطاي حين تأمَّلني أحد المارة، إلّا أن خطاي لم تهدأ، إلا حين وقفت إلى القبرين، جفَّ مجرى الدمع، تنفست بعمق، قرأت الفاتحة، ومسحت وجهي براحتي دون أن أتذكر تلك الندبة» (ص: 46-47).
ختامًا، المجموعة تبشر بصوت له بصمة خاصة في كتابة القصة، ولعل الذي جعل له هذه البصمة العمق المعرفي الذي أودعه قصص مجموعته.