Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Oct-2021

تاريخ الأشياء”: طبقة رابعة للتاريخ”* نادر كاظم
مدونة -
عشية صدور كتابه الجديد “تاريخ الأشياء” طلبنا من الدكتور نادر كاظم ان يشرح للقراء عن كتابه هذا وطبيعته وموضوعه. آثر كاظم ان يعرض هنا في المدونة مقدمة كتابه التي يشرح فيها دوافع تأليف الكتاب وفكرته التي تنطوي على اسهام فكري/ثقافي جديد منه لقراءة التاريخ عبر مستوى جديد اطلق عليه “زمن الأشياء“.
 
 
زمن الأشياء
 
 
 
نادر كاظم*
 
لا أعرف حتى الآن كتاباً يضاهي فرادة العمل الضخم الذي أنجزه المؤرّخ الفرنسي الكبير فرناند بروديل (1902-1985)، وهو كتاب “البحر الأبيض المتوسط ​​وعالم البحر الأبيض المتوسط ​​في عصر فيليب الثاني”. أراد بروديل، في هذا الكتاب وهو الأعظم والأشمل بلا جدال (تربو صفحات الترجمة الإنجليزية التي نحيل عليها هنا على 1300 صفحة)، أراد أن يكتب تاريخاً شاملاً ليس لأمة من الأمم، ولا لحضارة من الحضارات، بل لبحر اعتبره بروديل مجموعة بحار في بحر واحد وهو البحر الأبيض المتوسط في القرن السادس عشر.
 
لبروديل عمل آخر يأتي بعد هذا الكتاب من حيث الطموح والاتساع والأهمية وهو كتاب “هوية فرنسا” الذي انتهى منه في العام 1981 (قبل وفاته بأربع سنوات). حاول بروديل، في هذا الكتاب، أن يضيّق الدائرة أكثر ليكتب تاريخاً شاملاً لبلد متوسطي واحد، وتحديداً لفرنسا كمكان وأرض ومدن ومقاطعات وأقاليم وحدود واقتصاد وسكّان وأمراض وهجرات. وفكّر، في البداية، أن يسمي هذا الكتاب الأخير باسم “الدورات طويلة الأجل في التاريخ الفرنسي”، إلا أنه عدل عن هذا الاسم الطويل والذي كان سيرضي غرور الكثير من الأكاديميين والمؤرخين والنخبة، لكنه لن يحظى، بكل تأكيد، باهتمام عموم القرّاء، في حين أن بروديل أراد في آخر عمره أن يقدّم عملاً يثبت جدوى طريقته في التأريخ من خلال “الاستناد إلى مثال متاح لجمهور واسع[1]“، فكان هذا العنوان “هوية فرنسا” هو الأنسب لمثل هذا الغرض. إلا أن الحقيقة أنه إذا كان لبروديل من إسهام لا يُنسى في مجال التاريخ فإن هذا الإسهام سيكون هو ابتكاره لمفهوم “الدورات طويلة الأجل” longue durée أو “الزمن المديد” أو “الزمن العميق”.
 
بدأ اهتمام بروديل بتاريخ البحر الأبيض المتوسط منذ العام 1923، وهو الاهتمام الذي تُوّج، في العام 1949، بكتابه الأشهر “البحر الأبيض المتوسط ​​وعالم البحر الأبيض المتوسط ​​في عصر فيليب الثاني”.
 
عندما بدأ بروديل العمل على هذا الكتاب في العام 1923 لم يكن في باله سوى أن ينجز أطروحة أكاديمية تنال إعجاب أساتذته في السوربون، ولهذا اختار موضوع “سياسة فيليب الثاني في البحر الأبيض المتوسّط”. نالت الأطروحة إعجاب أساتذته كما توقّع، لكنه اكتشف لاحقاً أن “سياسة فيليب الثاني”، ملك إسبانيا في الفترة بين 1556 و1598، لم تكن سوى “قمم الرغوة التي تحملها أمواج التاريخ على ظهورها القوية[2]“، مما يعني أن هذه الأمواج القوية ينبغي أن تصبح هي موضوع التاريخ لا مجرد خلفية أو ديكور لملوك إسبانيا و”سياستهم الشاذّة” آنذاك. لكن هذا الأمر يتطلب التحرّك خارج حدود التاريخ التقليدي من أجل كتابة تاريخ للبحر وأمواجه القوية التي تمتلك تاريخاً أكثر عمقاً وتجذّراً من الأحداث والملوك وسياساتهم المتقلّبة.
 
 
 
(مستويات التاريخ)
 
توصّل بروديل، في النهاية، إلى فكرة ستغيّر فهمنا للتاريخ على نحو جذري، وهي تشرّيح التاريخ إلى أكثر من مستوى من مستويات الزمن التي تكوّن التاريخ الشامل للمكان وبشره وكائناته وشجره وحجره. وهو يميّز بين ثلاثة أزمنه، أو ثلاث طبقات متدرجة ومتراكبة طبقة فوق طبقة، حيث تكوّن الطبقة الأولى “الزمن العميق” أو “الزمن المديد” وطويل الأجل الذي يجسّد تاريخ الإنسان بعلاقته المشدودة إلى الجمادات، إلى الأرض والبحر وأشيائهما. وهو زمن عميق يضرب بجذوره في طبقات التاريخ البعيدة مكوّناً “الزمن الجغرافي والجيولوجي” للمكان، أي الزمن الذي يتجسد في تفاعلات الموقع والبيئة والمناخ وطبقات الأرض وموارد الطبيعة. ويتكوّن هذا الزمن العميق بإيقاع بطيء جداً، “وهو بطيء التغير، ويكاد يكون تاريخاً من التكرار المستمر، ودورات متكررة باستمرار[3]، وهو تاريخ شديد المقاومة للتدخّل البشري، ولهذا يبقى متحكّماً في المستويين الثاني والثالث من طبقات الزمن. ويتكوّن المستوى الثاني من الطبقة الثانية من الزمن المديد، وهو “الزمن الاجتماعي” أو التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي طويل الأجل لأمة من الأمم، وهو يتصل بتكوّن الطبقات الاجتماعية والجماعات والحضارات والإمبراطوريات وانهيارها والتحولات الديموغرافية والاقتصادية العميقة والحروب. لهذا الزمن “إيقاعات بطيئة لكنها محسوسة”؛ ولهذا فإن التغيير في هذا المستوى يكون أسرع بكثير من المستوى الأول، إلا أن دورة تغيره تمتدّ على مدى زمني طويل ويقاس عادةً بالقرون. أما المستوى الثالث من الزمن فهو “الزمن الفردي” أو “تاريخ الأفراد أو ما أسماه بول لاكومب وفرانسوا سيميند بـ”تاريخ الأحداث”، وهو تاريخ الاضطرابات السطحية[4] التي تتجسّد في الأحداث والوقائع التي ترتبط بالأفراد ومجريات الأحداث السياسية سريعة التغيّر، ولهذا يسميه بروديل بـ”الزمن الصحفي والإخباري بامتياز”. يمثّل هذا المستوى زمن الفاعلين الأفراد وهم يستغرقون بالكامل في أحداث “حياتهم قصيرة العمر وقصيرة النظر مثل حياتنا”. الأمر الذي يجعلهم – ويجعلنا كذلك – يتوهّمون أن الراهن الملتهب من الأحداث هو كل شيء، وأنه سيدوم طويلاً وربما إلى الأبد. يشبّه بروديل هذا الزمن بـ”الدخان الخادع الذي يملأ عقول معاصريه، لكنه لا يدوم، ونادراً ما يمكن تمييز ناره الملتهبة[5]. وبحسب بروديل، فإن الزمن الفردي الحدثي (يمكن أن نسميه التاريخ الصغير) هو أكثر الأزمنة خداعاً بحكم أنه يحدث في زمن الأفراد، وأمام وعيهم وناظريهم، وفي مستوى مشاعرهم فرحهم ورعبهم اليوميين، إلا أن الذي يمسك التاريخ من قرنيه – إن صحّ التعبير – ليس هذا الزمن سريع التقلّب الذي يحدث أمامنا، بل هو ذلك الزمن المديد الذي لا نراه، لكنه يجري تحت أقدامنا دون أن نشعر مثل أمواج البحر “الخالدة”.
 
يتركّب التاريخ، بحسب بروديل، كطبقات الأرض في الجيولوجيا، حيث يمثل المستوى الأول على الطبقة العميقة من قاع التاريخ، فيما يمثّل المستوى الثالث القشرة السطحية والخادعة وسريعة التقلّب من هذا التاريخ. ويقع جزء كبير من التاريخ السياسي في هذه الطبقة السطحية الأخيرة؛ لهذا يذهب بروديل إلى القول بأن “التاريخ السياسي دائماً كان يتركز على دراما “الأحداث العظيمة” التي تجري في فترة زمنية قصيرة[6]“. إلا أن وضع هذه “الأحداث العظيمة” في سياقها الزمني طويل الأجل والممتد على مدى قرون متطاولة من حركة التواريخ السياسية والاقتصادية والسكانية والاجتماعية والبيئية والجغرافية، كل هذا كفيل بأن يكشف لنا هذه الحقيقة، وهي أن هذه “الأحداث العظيمة” ليست سوى طَرفة عين في عمر الأزمنة المديدة.
 
ولأصارحكم، هنا، بأني كنت مولعاً بفكرة بروديل عن الزمن المديد، ولطالما كنت أقرأ عمليه عن “عالم البحر الأبيض المتوسط” و”هوية فرنسا” وأنا أتخيّل “عالم الخليج العربي” و”هوية البحرين”. بالطبع لا أدري متى تسنح الفرصة للتفرّغ لعمل كبير مثل هذا، لكن الذي اكتشفته هو أني كنت، فعليّاً، أحوّم حول هذا المشروع منذ كتبت كتابي “طبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية” في العام 2007. وهو تحويم تواصل معي في كتابي “استعمالات الذاكرة” في العام 2008، إلا أن الانهماك الجدّي به وعلى نحو أكثر وعياً إنما تجلّى في كتابي “لا أحد ينام في المنامة” في العام 2019. ويأتي هذا الكتاب “تاريخ الأشياء” استمراراً لهذا النوع من التحويم ولكن بطريقة مختلفة جداً؛ لأني أردته أن يكون كتاباً توثيقياً مصوّراً.
 
وقد شعرت بمدى أهمية هذه الطريقة في كتابة تاريخ موثّق ومصوّر للأشياء أثناء اشتغالي على كتاب “الشيخ والتنوير”، حيث فوجئت بحجم التشويش وعدم الدقة في تاريخنا الثقافي حتى القريب منه والذي لا يتعدّى المائة أو المائة وخمسين عاماً لا أكثر. قد لا ينتابنا العجب إذا عرفنا أن أغلب تاريخنا الثقافي غير المكتوب يمتاز بالتشويش وعدم الدقة؛ لأن هذه طبيعة التواريخ الشفاهية في كل مكان تقريباً، إلا أن المشكلة لا تكمن في تاريخنا الشفاهي، بل إن أغلب تاريخنا المكتوب كان أقرب إلى الشفاهية من حيث تقلّبه وتشوّشه وعدم دقته. ويكفي أن أسوق هذا المثال: اشتغلت، في كتابي الأخير “الشيخ والتنوير”، على توثيق سيرة حياة ناصر الخيري، وهو مفكّر ومؤرّخ بحريني رائد ومن طراز فريد، إلا أنه، ولسوء الحظّ، لا يوجد سوى كتاب واحد فقط عن “ناصر الخيري” وهو الكتاب الذي ألّفه مبارك الخاطر ونشره في العام 1982 تحت عنوان “ناصر الخيري الأديب الكاتب”. اعتمد كل الباحثين الذي جاءوا بعد مبارك الخاطر على ما ذكره هذا الأخير سواء في تحديد تاريخ مولد ناصر الخيري، وتاريخ تعلّمه في مدرسة المبشرين الأمريكية، وتاريخ تأليف كتابه الفريد “قلائد النحرين في تاريخ البحرين”. والسبب أنه لا يوجد مصدر متاح آخر للحصول على هذه المعلومات غير كتاب مبارك الخاطر. يذكر مبارك الخاطر وكل من نقل عنه، على سبيل المثال، أن ناصر الخيري وُلد في العام 1876، وسوف تتعجّبون من الطريقة التي توصّل عبرها إلى تحديد هذا التاريخ الدقيق في ظل غياب أية وثيقة تحدّد سنة مولد ناصر الخيري. فقد بنى مبارك الخاطر معلومته عن تاريخ ولادة ناصر على افتراض تاريخي غير صحيح، وراح يحدّد عمر ناصر بناء على هذا الاقتراض غير الصحيح. والغريب أن كل من كتب عن ناصر، بعد مبارك الخاطر، اجترّ وراءه هذا الخطأ دون تدقيق أو تمحيص من أحد.
 
كتب مبارك الخاطر، وتابعه في ذلك عبد الرحمن الشقير الذي عثر على مخطوط ناصر في مكتبة خالد الفرج في الكويت، وبشير زين العابدين الذي حقّق الكتاب، كتب بأن ناصر درس في مدرسة الإرسالية عند تأسيسها في العام 1894، وأن عمر ناصر كان يقارب العشرين عاماً إبان دراسته، وأنه “أمضى فيها قرابة ثلاثة أعوام ألمّ في أثنائها باللغة الإنكليزية، وبشيء من العلوم الحديثة، وخرج ناصر من هذه المدرسة وسنه تقارب الثانية والعشرين[7]“. وفي موضع آخر يشير إلى أن ناصر الخيري درس في المدرسة وعمره يقارب الثامنة عشرة، وتخرج منها وعمره قد تجاوز الواحدة والعشرين. ويبدو أن مبارك الخاطر سمع ممن قابلهم من معاصري ناصر الخيري أنه التحق بالمدرسة وعمره يقارب الثامنة عشرة أو العشرين، ويبدو أن هذه المعلومة صحيحة على نحو ما، إلا أن سنة تأسيس المدرسة هو الذي التبس عليه، فراح يبني افتراضه على أن المدرسة تأسّست في العام 1894، وبطرح ثمانية عشر عاماً من هذا التاريخ يكون الناتج هو 1876، وهو العام الذي اعتمده الخاطر لولادة ناصر بكل ثقة. هكذا بكل بساطة بنى مبارك الخاطر تقديره لعمر ناصر على معلومة تاريخية غير صحيحة. في حين أن أرشيف الإرسالية الأمريكية في متناول اليد، ويستطيع أي باحث أن يعرف منه بأن المدرسة تأسّست أواخر العام 1899 كمدرسة صغيرة في شرفة بيت الإرسالية القديم، وأن ناصر الخيري لم يلتحق بالمدرسة إبان تأسيسها، بل إنه التحق بها في العام 1905. فإذا صحّت معلومة مبارك الخاطر القائلة بأن ناصر الخيري التحق بالمدرسة وعمره يقارب الثامنة عشرة، فإن عام ولادة ناصر الصحيح ينبغي أن يكون 1887 وليس 1876. قد يكون هذا مثالاً تافهاً، لكن التدقيق يكشف أن الكثير من تواريخنا جرى توثيقها (أو تشويشها) على هذا النحو، وبهذه الطريقة من الاستسهال.
 
قد يكون عذر مبارك الخاطر هو نقص الوثائق أو صعوبة الوصول إلى الأرشيفات والسجلات آنذاك، إلا أن هذا العذر ما عاد يقبله أحد منا الآن بعد أن أصبحت أغلب أرشيفات العالم ومجموعات سجلاته تحت تصرّفنا وفي متناول أيدينا. وعلى هذا، سيعتمد هذا الكتاب، بالدرجة الأولى، على أرشيفات عديدة وعلى كمّ ضخم من الوثائق والصور والموادّ الأرشيفية الأخرى (الطوابع البريدية، والبطاقات البريدية، والخرائط…)، وذلك في محاولة لتقديم مسيرة الأشياء ذات الأجل الطويل في تاريخ البحرين، من المقبرة إلى المكتبة، إلى المدرسة، إلى المَعْلم التاريخي، إلى الساعة والتوقيت، إلى كرسيّ استعماري عتيق، إلى الجسر الذي ربط بين أهم جزيرتين (البحرين الأمّ والمحرّق)، إلى شارع الحكومة درّة الشوارع في تاريخ البحرين، إلى تاريخ اسم البحرين في اللغات اللاتينية، إلى أكوام حجارة كانت في يوم من الأيام شواهد على قبور مجهولة لضحايا مجهولين ذابوا في الأرض مع الزمن.
 
 
 
(الاشياء العظيمة تصنعنا في نهاية المطاف)
 
لا يوجد قاسم مشترك بين الأشياء في هذا الكتاب سوى أمرين: الأول أن كل هذه الأشياء كانت البدايات الأولى من نوعها. فحين نتحدّث عن أول مكتبة ومدرسة ومقبرة للمسيحيين وشارع حديث وجسر واسم فنحن نتحدّث عن هذه الأشياء. أين تكمن أهمية البدايات؟ تمثّل البدايات عظمة الفعل الإنساني وهو يبتكر أشياء جديدة لم تكن موجودةً، ويؤسس لما سيأتي في المستقبل. ترسم البدايات حدّاً بين ما كان، وما سيكون. إلا أن المأساوي في الأشياء “العظيمة” التي نصنعها أنها تصنعنا في نهاية المطاف، وتتحكّم فينا بصورة أشبه ما تكون بانقلاب السحر على الساحر. وهو ما يقودنا إلى القاسم المشترك الثاني.
 
تشترك كل هذه الأشياء في كونها أشياء من صنع البشر، لا أشياء طبيعية وجدت بمعزل عن إرادة البشر وتفكيرهم وفعلهم. الأمر الذي يعني أنها أشياء تمتلك زمنها الخاص، وهو زمن لا يبدو أنه يقع في أي مستوى من مستويات أزمنه بروديل الثلاثة (الجيولوجي/الجغرافي، الزمن الاجتماعي، الزمن الفردي). فإذا كان الزمن الفردي هو زمن الأفراد، والزمن الاجتماعي هو زمن الجماعات والطبقات، والزمن الجيولوجي/الجغرافي هو زمن الأرض والتضاريس والمناخ، فإن زمن الأشياء، مصنوعات البشر، لا يقع في أيٍّ من هذه الأزمنة، فزمنها ليس فردياً لتتلاشى بموت أصحابها (صُنّاعها ومستخدميها)، ولا هو زمن تكوّن الجماعات والطبقات والكيانات الجماعية الكبرى، ولا هو زمن الأرض والتضاريس والمناخ وبقية أشياء الطبيعة. صحيح أن الأفراد من البشر هم من يبتكرون هذه الأشياء، وهم من ينفذّونها، وهم من يستخدمونها، وهم، كذلك، من يرمّمونها ليطول عمرها، أو يهملونها ليقصر هذا العمر، إلا أن هذه الأشياء تمتلك، في نهاية المطاف، زمنها الخاص؛ بدليل أن كل من ابتكر أو نفّذ البدايات الأولى لهذه الأشياء (في هذا الكتاب) مات، فيما بقيت هذه الأشياء، أو امتدّ العمر بها وبآثارها على مدى زمني أطول من عمر أصحابها. لا تبلغ الأشياء البشرية، بالتأكيد، الأمد الطويل الذي يميّز الزمن الجيولوجي/الجغرافي، فتاريخ البحر (الخليج) والطبيعة الجُزرية للبحرين أعمق من تاريخ هذه الأشياء بكل تأكيد، إلا أن هذه الأشياء التي تأتي لتجاوز عقبة ما في أشياء الزمن طويل الأجل (ندرة الموارد واستعصاء التضاريس والمناخ) تمتلك كيانها الخاص الذي يعيد رسم العلاقة مع البشر وأشياء الطبيعة على نحو غير متوقّع.
 
لم يكن تاريخ الأشياء ليفلت من اهتمام مؤرخ فذّ مثل بروديل، إذ إنه بعد أن انتهى من نشر “البحر الأبيض المتوسط ​​وعالم البحر الأبيض المتوسط ​​في عصر فيليب الثاني”، عكف على كتابة كتاب آخر من كتبه الضخمة كان مكرّساً بالكامل تقريباً لقراءة تاريخ الأشياء، وهو المجلد الأول من كتاب “الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية”، أي “الحياة المادية وبنياتها: الممكن والمستحيل”. ويقصد بروديل بـ”الحضارة المادية” أو “الحياة المادية” أشياء الحياة اليومية التي تكوّن ما يسميه بـ”التاريخ الصغير” الذي يتألّف من “أشتات متفرقات من آلاف مؤلفة من الوقائع المختلفة[8]” التي تتكرّر إلى ما لا نهاية، لتعبر بذلك على “طبقات الزمن الكثيفة والصامتة”، وتستمرّ إلى أجل غير مسمّى. وهي تشمل، عنده، أعداد البشر ودوابّهم وأطعمتهم وأشربتهم ومساكنهم وملابسهم وتقنياتهم ومواصلاتهم ونقودهم ومدنهم.
 
إن أشياء البشر هي نتاج تفاعلهم مع أشياء الطبيعة، هذا صحيح، لكن هذه الأشياء ما إن تُصنع وتتجسّد ماديّاً حتى يتغيّر كل شيء في حياة البشر والطبيعة معاً. وتمثّل النقود مثالاً نموذجياً على هذه الحالة. جميعنا نعرف أن البشر القديمين اخترعوا النقود لخدمتهم ولتسهيل عمليات تبادل السلع والخدمات عبر الثقة الجماعية في وسيط تبادل يكون مضموناً وسهل التخزين والنقل والتقسيم. غير أن النقود نظام توسّعي لا يرحم، فحين يؤمن جميع الناس بقيمة النقود يصبح كل شيء قابل للتحويل لهذه النقود. الأمر الذي يعني أن النقود ستكتسب قيمة أكبر من قيمتها الفعلية حين اخترعها البشر الأوائل كمجرد وسيط ممتاز لتبادل سلعهم وخدماتهم المحدودة، أي سيصبح بالإمكان تبادل كل شيء بما في ذلك البشر أنفسهم كعبيد أو أجراء، وبما في ذلك قيم البشر، ومعتقداتهم، وكرامتهم، وحرياتهم، وولائهم، وتضامنهم، وحماستهم، وكل الأشياء التي كانت “لا تقدّر بثمن” لهيبتها وقدسيتها في يوم من الأيام. إن تحويل كل شيء إلى قيمة تبادلية حوّل معه كل العلاقات بشرية وغير بشرية إلى “علاقات مالية”. وهو التحويل الذي جعل “كل ما هو صلب يتبخّر في الهواء” بحسب تعبير “البيان الشيوعي” الشهير.
 
كان كارل ماركس قد تنبّه إلى خطر “التشييء” من منظور اقتصادي، وذلك عند تحليله للعمل المغترب وظاهرة “الاغتراب” وما يحدث للعامل والعمل في ظل الإنتاج الرأسمالي للسلعة. بالنسبة لماركس، فإن “العامل لا يستطيع أن ينتج شيئاً من دون الطبيعة، من دون ذلك العالم الخارجي المحسوس. إنها المادة التي يتحقّق عمله عليها، وينشط فيها، وينتج منها وبواسطتها[9]. إلا أن العمل أو إنتاج السلع (الأشياء) ليس مجرد عملية استثمار للعالم الطبيعي، أو عملية تحويل بسيطة له، بل هو عملية أقرب ما تكون إلى إعادة التكوين الجذرية بحيث يتغيّر بموجبها لا العالم الطبيعي الذي يعاد تكوينه عبر العمل فحسب، بل البشر أنفسهم حين يتحوّلون من ذوات إلى أشياء، إلى موضوعات وسلع تباع وتشترى، ترتفع قيمتها وتنخفض. إن ما ينتجه البشر من أشياء يعيد رسم العلاقة برمتها بين البشر والطبيعة عبر عملية يسميها ماركس التشييء objectification. يتضمّن الإنتاج، أي نشاط إنتاجي رأسمالي بحسب ماركس، تشييئاً من نوع ما، فحين يتجسّد العمل في مُنتج ماديّ، فإنه يمتلك كيانه الخاص المستقلّ بحيث تنبتّ الصلة بينه وبين العامل، بمعنى أن الأشياء (السلع) تصبح غريبة عن العامل على الرغم من كونه هو المنتج الفعلي لها. وما خلص إليه ماركس هو أن قيمة عالم البشر (العامل هنا) تنخفض كلما ازدادت قيمة عالم الأشياء (السلع). وبتعبير ماركس نفسه، فإن “العمل لا ينتج السلع فحسب، بل هو ينتج نفسه والعامل معاً بتحويل ذلك [أي العمل والعامل] إلى سلعة، ويتمّ ذلك بالمعدل ذاته الذي تُنتج به السلع بشكل عام [10].
 
ما كان يعني ماركس في هذه العملية هو اغتراب العامل عن عمله وعن منتجاته بما يمثّله ذلك من خسارة للعامل الذي أصبح محروماً من أهم الأشياء ليس فقط في الحياة ولكن أيضاً في العمل الذي صار الحصول عليه مسألة بالغة الصعوبة (البطالة). وبما أن المعادلة صفرية هنا، فلا بد أن تكون هذه الخسارة ربحاً لطرف آخر، أما من هو هذا الطرف الذي يربح من خسارة العامل وتخفيض قيمته وقيمة عمله، فهم البورجوازيين أصحاب رؤوس الأموال (ويمكن أن يكون المستهلك كذلك لأنه سيقتني السلع بأسعار منخفضة). ولكن بمعزل عن هذه العواقب الاقتصادية التي لا تعنيني كثيراً هنا، فإن صنع الأشياء بحدّ ذاته هو خسارة لجميع الأطراف بشكل أو بآخر، لعالم البشر وعالم الطبيعة معاً. كان ماركس يقول “إن التشييء هو خسارة الشيء”، وهو يقصد أنها خسارة من جانب العامل بمعنى أن تحوّل الذات (العامل) إلى موضوع (شيء) هو البداية الفعلية لفقدان وخسارة هذا الشيء (العامل والعمل والسلعة معاً). إلا أن هذا ليس إلا الوجه الاقتصادي من التشييء، أما الوجه الآخر، لنسمّه هنا الوجه الوجودي، فهو أمر آخر. يمكن القول إن الرابح الأكبر، وجودياً في التشييء، هو هذه الأشياء ذاتها؛ لا لأنها لم تكن موجودة فوُجدت فحسب، أو إنها كانت في حالة طبيعية كموادّ خام وصارت في حالة أخرى كأشياء ذات معنى ووظيفة فحسب، بل لأن هذه الأشياء ما إن توجد (تتجسّد في أشياء مادية) حتى يتغيّر كل شيء من حولها من البشر إلى الشجر إلى الحجر، بحيث يصبح كل شيء مضطرّاً للتكيّف معها، أي مضطرّاً لتغيير ذاته أو جزء من ذاته ليتناسب مع هذه الأشياء المصنوعة. يصف بروديل هذا النوع من التكيّف المطلوب بأنه أشبه بعملية جراحية في جسد المكان. فعندما دخلت العربة في أوروبا القرن السادس عشر “فرضت على الناس إجراء جراحة للمدن[11]“.
 
جاءت فكرة إنشاء أول جسر يربط بين جزيرتين في البحرين، على سبيل المثال، من أجل التغلّب على تلك الطبيعة الجغرافية المتشظيّة لأرخبيل يتألّف من 84 جزيرة وجُزيرة صغيرة. وجاءت فكرة الشوارع المعبّدة للتغلّب على تضاريس تلك الأرض المتعرّجة وغير المستوية وغير المؤهّلة لاستقبال القادم الجديد (السيارة) الذي غيّر كامل حياتنا كبشر ودوابّ وأرض على نحو لا رجعة فيه. يمكن، بالطبع، أن يصل استصلاح البحر إلى حدّ دفن كامل المساحة المائية الفاصلة بين جزيرتي المحرق والبحرين الأم، بحيث تنتهي الحاجة إلى وجود أي جسر يربط بينهما، إلا أن هذه فكرة تبقى خيالية ليس الآن فحسب، بل حتى في المستقبل القريب على أقل تقدير. ولكن، ماذا يمكن لمثال الجسر والطبيعة المتشظية لهذا الأرخبيل أن يكشف لنا؟ لنضع في اعتبارنا أن هذا الأرخبيل تكوّن على مدى قرون طويلة منذ أن انشقّ عن يابسة الجزيرة العربية في زمن جيولوجي سحيق (100 ألف سنة يقلّ أو يزيد)، إلا أن أشياء البشر، سياراتهم وشوارعهم وجسورهم وحتى جشعهم الذي لا حدود له، صارت قادرة على التهديد بوضع حدّ لتلك الطبيعة العصيّة في هذا الزمن الجيولوجي/الجغرافي السحيق. الأمر الذي يعني أن زمن الأشياء (البشرية)، زمن الشوارع والجسور والمقابر والمعالم والأمكنة والساعات والأسماء…إلخ، صار فعليّاً هو السياق الذي يمسك بكامل حياتنا ككائنات بشرية وغير بشرية، كأفراد وجماعات ودوابّ وتضاريس، أي إن تاريخ الأشياء صار، بالفعل يتحكّم في أزمنة بروديل الثلاثة معاً: الزمن الجغرافي، والزمن الاجتماعي، والزمن الفردي.
 
لكل الأشياء البشرية تاريخ افتراضي، إلا أن أحداً لا يعرف إلى متى ستدوم هذه الأشياء فعلياً، وحتى إذا عرفنا ذلك فإن الأوان يكون قد فات؛ لأن هذه الأشياء تكون، عندئذٍ، قد فعلت فعلها، ووضعت بصمتها التي لا تُمحى على وجه الزمن. قد يمتدّ العمر بالأشياء إلى مائة عام، أو حتى ستين عاماً كما هو عمر أصغر الأشياء في هذا الكتاب، وهو ساعة برج الكنيسة الإنجيلية الوطنية بالمنامة. كان عمر هذه الساعة أقصر بقليل من عمر أكثر البشر آنذاك، فهي لم تعش سوى ستين عاماً منذ تركيبها في العام 1911 (لم يكن العمر المتوقّع للبشر في العالم يتجاوز 55 عاماً آنذاك، وفي البحرين ربما كان يتراوح بين 20 و30 عاماً) حتى إزالتها في العام 1971 (كان العمر المتوقّع للبحرينيين قد وصل، آنذاك، إلى 64 عاماً)، إلا أن ما فعلته هذه الساعة التأسيسية فعلاً هو أنها كتبت البداية الأولى للموت النهائي للتوقيت العربي (التوقيت العربي الذي يبدأ من غروب الشمس) إلى الأبد (بالطبع لا يمكننا الجزم بالتغيرات التي ستحصل قبل أن نصل إلى هذا الأبد!). ثم هل يمكن لأحد أن يتخيّل المنامة من دون شارع الحكومة؟ قد يكون شارع الحكومة تحوّل إلى شارع داخلي بعد إنشاء شارع الملك فيصل في سبعينات القرن العشرين، إلا أن هذا الشارع الذي أنشئ في العام 1924 سيدوم إلى أمد طويل، والأهم أنه صار يتحكّم في حركتنا كأفراد ومركبات ودوابّ (ما عادت الدوابّ تستخدم هذا الشارع أصلاً بعد أن كان مشهد قطعان الأغنام والحمير في الشارع مشهداً اعتيادياً حتى خمسينات القرن العشرين على الأقل)، ومثّل، في يوم من الأيام، خطوة اليابسة الأولى باتجاه البحر. كان هذا الشارع بمثابة راية الأشياء البشرية المرفوعة فوق رماح الجيوش وهي تزحف زحفها المظفّر باتجاه البحر الخرافي، أعظم أشياء الزمن طويلة الأجل في هذا الأرخبيل الصغير.
 
 
 
(كرم المؤسسات والأفراد)
 
وختاماً، وبقدر ما سيكون لهذا الكتاب من قيمة أتأمّلها، فإن هذا الكتاب قد استحقّها بفضل كرم الكثير من المؤسسات والأصدقاء الذين سمحوا لي باستخدام أرشيفاتهم ومجموعاتهم الخاصة، والتي لولاها لبقيت الكثير من النواقص تعتور هذا الكتاب. وأسجّل، هنا، خالص شكري وتقديري ليورغن نورغارد بيدرسن على كرمه في التعاون معي سواء بتزويدي بصور “مكتبة العائلة” من أرشيف الإرسالية الدنماركية أم بتفضّله بالإجابة الوافية عن الكثير من أسئلتي حول تاريخ المكتبة في الحقبة التي كان هو مسؤولاً مباشراً عنها في البحرين والشرق الأوسط (1967-2002). وأنا ممتن جدّاً لكثير من الأصدقاء والمؤسسات، وأقدّم شكراً خاصاً وامتناناً بلا حدود لكلٍ من هيئة البحرين للثقافة والآثار (أرشيف متحف البحرين الوطني وقسم المشاريع بالهيئة)، وجاسم الدرازي، وجاسم آل عبّاس، وسيد فاضل سيد شرف ومتحف المنامة الرقمي (حكاية المنامة)، وعبد الجليل أحمد، وعقيل الموسوي، ويوسف داود الصايغ، أنا مدين لكرم هؤلاء وتفضّلهم بوضع مجموعاتهم الأرشيفية القيّمة تحت تصرّف هذا الكتاب.