Saturday 14th of June 2025 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Jun-2025

السباق النووي الموازي: أميركا تتخلف عن الصين وروسيا في ابتكارات الطاقة

 الغد

جوزيل لويد* - (الإندبندنت) 15/5/2025
 
يشهد العالم سباقاً جديداً للهيمنة على سوق الطاقة النووية تقوده الصين وروسيا عبر تصدير المفاعلات الصغيرة المعيارية إلى الدول النامية، بينما تتراجع الولايات المتحدة وحلفاؤها، مما يهدد بتغيير موازين القوى الجيوسياسية ما لم تُعد الديمقراطيات الغربية تنظيم استراتيجياتها النووية بسرعة.
 
 
يشهد العالم اليوم سباقاً دولياً من نمط جديد، ليس من أجل السلطة والسيطرة في الفضاء، بل لتحقيق التحكم في سوق الطاقة النووية العالمي. كثيراً ما كانت الطاقة النووية، بسبب الحوادث الكبرى والتجاوزات في الموازنات، محفوفة بالأخطار، مما أعاق اعتمادها للاستخدام على نطاق واسع. لكنها عادت، خلال العقد الماضي، إلى الساحة بفضل تطوير مفاعلات نووية صغيرة معيارية. وتلعب الصين وروسيا دور القيادة في هذا المجال، حيث تعملان على زيادة قدراتهما المحلية، فضلاً عن تصدير التكنولوجيا النووية، وبناء محطات الطاقة النووية في عدد من دول الاقتصادات الناشئة.
المفاعلات النووية الصغيرة المعيارية هي نوع متطور من المفاعلات النووية، مصممة لتكون أصغر حجمًا من المفاعلات التقليدية، ويمكن تصنيع مكوناتها في المصانع ثم نقلها وتجميعها في الموقع، مما يقلل من الكلفة ومدة البناء.
تتميز هذه المفاعلات بالمرونة، حيث يمكن استخدامها لتوليد الكهرباء أو تحلية المياه أو توفير الطاقة للصناعات، كما أنها تعد أكثر أماناً بفضل أنظمة تبريد سلبية وتقنيات حديثة تقلل من أخطار الانصهار أو التسرب الإشعاعي.
تقود روسيا اليوم العالم في مجال بناء محطات الطاقة النووية، وتقوم شركة الطاقة النووية "روساتوم" المملوكة للدولة، بإنشاء ستة مفاعلات محلية جديدة، كما تعمل على المساعدة في بناء 19 مفاعلاً في ستة بلدان أجنبية. وفي الأثناء، قامت الصين، خلال الأعوام العشرة الماضية، بتوقيع عقود للمساعدة في بناء 9 مفاعلات نووية في أربعة بلدان، مع حفاظها على معدل توسع لا مثيل له في القطاع النووي المحلي. وقد أظهر البلدان بشكل خاص في هذا السياق سرعة في استيعاب إمكانات وقدرات المفاعلات المعيارية الصغيرة التي يمكنها في الحالة المثالية توليد ما يصل إلى ثلث الطاقة التي تنتجها المحطات النووية التقليدية. ويمكن نشر هذه المفاعلات الصغيرة، بالمقارنة مع المفاعلات التقليدية الكبيرة، بسرعة في المناطق المفتقرة إلى قدرات الشبكة الكهربائية المرنة، كما أن تصاميمها المعيارية (النموذجية) تجعلها ميسرة الكلفة.
اليوم، مع التحول السريع الراهن للعالم نحو الكهرباء، تتزايد الحاجة إلى مصادر طاقة جديدة بأسعار ميسرة ومقبولة. ومن المتوقع أن ينمو الطلب العالمي على الكهرباء خلال السنوات القليلة المقبلة بمعدل سنوي يقارب أربعة في المائة، وستشكل البلدان النامية نحو 85 في المائة من معدلات الطلب الجديدة. ومن بين القوى الكبرى في العالم، كانت الصين وروسيا الأكثر سرعة واستباقاً في إدراك هذه الحاجة الدولية والاستجابة لها عبر صادرات الطاقة الكهربائية. ويقوم كلا البلدين، على نحو نشط، باستهداف البلدان النامية في هذا المجال.
قد تؤدي هذه الجهود في المجال النووي إلى تبديل مشهد الطاقة العالمي وتغيير موازين القوى الجيوسياسية. فقد تصدرت الولايات المتحدة ذات يوم قطاع تطوير التكنولوجيا النووية. لكنها تخلت عن هذه الريادة منذ سبعينيات القرن الماضي تقريباً بسبب المعارضة الشعبية (الداخلية)، وارتفاع التكاليف والتحديات الإدارية والتنظيمية. وهي الآن تدفع الثمن. فالحاجة المتزايدة إلى الكهرباء بهدف تشغيل الذكاء الاصطناعي، معطوفة على رغبة البلدان النامية في الوصول إلى الطاقة والحصول عليها، تعنيان أن البلدان القادرة على تصدير المفاعلات النووية الصغيرة والمتوسطة بالسرعة المطلوبة وبأسعار معقولة، ستغدو على نحو متزايد شريكة للأمم الأخرى ومؤثرة في تلك الشراكات. والصين وروسيا في هذا الإطار تقومان فعلاً باستغلال استثماراتهما في الطاقة النووية بالخارج، لتعميق تأثيرهما الاقتصادي والسياسي في البلدان التي تبتاع تقنياتهما.
لذلك، ولمنع الأنظمة الاستبدادية من السيطرة على مستقبل سوق الطاقة النووية العالمي، على الولايات المتحدة الاستمرار في تحديث إطارها التنظيمي الذي يحكم عملية ترخيص المفاعلات، وإعادة توجيه الاستثمار الفيدرالي نحو تأسيس قطاع مفاعلات صغيرة خاص بها. كما ستحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى التعاون مع دول ديمقراطية حليفة في أوروبا وآسيا لتنويع سوق الطاقة النووية المتطورة، حيث وحدها جهود التعاون -في شكل منظمة متعددة الأطراف للطاقة النووية، وفق المقاربة المثلى- يمكنها أن تقدم للاقتصادات الناشئة حزم تمويل تنافسية تزاحم ما تقدمه الصين وروسيا. وإن لم تقم الدول الغربية عاجلاً بإعادة النظر في استراتيجياتها الدولية للطاقة النووية، فقد تستخدم الأنظمة الاستبدادية الطاقة النووية بفاعلية لتوجيه مسار العالم اقتصادياً وسياسياً، قبل أن تدرك الديمقراطيات أن وقت اللحاق بالركب قد فات.
 
عصر ذري جديد
تتزايد اليوم على نحو متسارع شهية الصين وروسيا لتصدير الطاقة النووية، ففي تموز (يوليو) من العام الماضي، وقعت جمهورية الكونغو الديمقراطية مذكرة تفاهم مع روسيا لاستكشاف استخدامات سلمية للطاقة النووية، كما تدرس أوغندا إقامة شراكة مع روسيا لبناء أول محطة للطاقة النووية على أراضيها. وهذا الشهر، بدأت شركة "روساتوم" أعمال تحضير الموقع لبناء محطة طاقة نووية في أوزبكستان، والتي ستكون أول مفاعل نووي في آسيا الوسطى والمفاعل الصغير المعياري الأول الذي تصدره روسيا. وبالإضافة إلى ذلك، تعمل الوكالة النووية الروسية أيضاً على إنشاء مشروع نووي في بنغلاديش. ومن جهتها، قامت الصين خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية بتوقيع اتفاقيات للطاقة النووية مع الأرجنتين وهنغاريا ونيجيريا وباكستان. وتستثمر كل من روسيا والصين بصورة خاصة في المفاعلات المعيارية الصغيرة، حيث نشرت روسيا أول مفاعل تجاري من هذا النوع في العام 2020، بينما بدأت الصين تشغيل أول مفاعل معياري مبرد بالغاز وعالي الحرارة باستخدام كرات الوقود في العام 2023، وهو الأول من نوعه عالمياً.
علاوة على ذلك، تحاول دول أخرى أيضاً دخول هذا المضمار. ولكن، وعلى نحو يناقض وضعية الشركات الخاصة المتخصصة بالطاقة النووية راهناً، فإن الشركتين "النووية الوطنية الصينية" و"روساتوم" الروسية مملوكتان للدولة، وهما تستفيدان من سلسلة توريد تدمج أنشطة التصنيع والبناء والتزود بالوقود في بوتقة عمل واحدة. كما تتبع الشركتان نهجاً أكثر انسيابية في طرق اتخاذ القرارات وتنفيذ العمليات. وتسهم هذه الكفاءة والفاعلية في تمكين الصين وروسيا من بناء المفاعلات بسرعة كبيرة وبتكاليف متدنية نسبياً. كما يعتمد القطاع النووي الصيني على آلاف الموظفين من ذوي الكفاءات العالية الذين يؤدون عملهم بسرعة ملحوظة. غير أن هذه الكفاءة لا تأتي ببساطة نتيجة للسيطرة الاستبدادية، بل هي وليدة خيارات مقصودة اعتمدتها بكين وموسكو لرفع أولوية قطاع الطاقة النووية وجعله أولوية وطنية. وقد عملت هاتان الدولتان على رفع كفاءة عمليات الترخيص لبناء المفاعلات النووية من دون مساومة في مسألة السلامة.
بالإضافة إلى ذلك، اختارت الصين وروسيا توفير تمويل حكومي سخي واستراتيجي للاستثمارات في مجال الطاقة النووية. وفي هذا السياق، ولكي تحقق بكين أهدافها النووية، قدر معهد أبحاث الطاقة ضمن "الهيئة الوطنية الصينية للتنمية والإصلاح" أنه يتوجب على الصين -وهي تستطيع ذلك- تنفيذ استثمارات بقيمة تتخطى 1.3 تريليون دولار بحلول العام 2050. وتأتي المشاريع الصينية في معظمها في العادة مدعومة بقروض حكومية ذات فائدة متدنية تصل إلى 1.4 في المائة، وهو معدل أدنى بكثير من المعدلات الوسطية العالمية للفائدة. كما تعهدت روسيا بدورها بتخصيص أكثر من 26 مليار دولار لمشاريع نووية محلية، وبتقديم حزم تمويل للصادرات قيمتها مليارات الدولارات. وهناك دول أخرى أيضاً لديها مؤسسات نووية مدعومة من الدولة، لكن أيًا منها لم تحاول حتى الآن مجاراة حجم حملات التصدير الصينية والروسية.
في هذا الإطار، غالباً ما تقوم كل من "الشركة النووية الوطنية الصينية" و"شركة روساتوم" بتغطية ما يصل إلى 85 في المائة من تكاليف المشاريع الخارجية على شكل قروض بمعدلات فائدة مواتية. كما تقدم الشركتان عقود "بناء وتملك وتشغيل"، أو صيغ اتفاقات تسمح لهما بتملك المفاعلات التي تبنيانها في الخارج لفترة محددة، فتقللان بذلك الأعباء على الدول المستوردة -مثل أعباء إدارة الوقود النووي المستهلك مثلاً. كما تقدم "الشركة النووية الوطنية الصينية" للمشترين الأجانب خدمات متكاملة تشمل تصميم وبناء وتشغيل محطاتهم النووية. ومن خلال العمل بصورة وثيقة مع المهندسين والعلماء في البلدان المستوردة، تستثمر بكين في تطوير العلاقات المتبادلة مع الأقران، التي تعزز علاقاتها الدولية الثنائية.
تغيير بسيط
على هذا الأساس، تقوم الاقتصادات الناشئة بالتوجه إلى الصين وروسيا للحصول على حاجتها من الطاقة، وخصوصاً لتلقي العون في بناء المفاعلات الصغيرة المعيارية. وكانت التقنية الخاصة بهذه المفاعلات قد طُورت خلال خمسينيات القرن الماضي لاستخدامها في المقام الأول ضمن التطبيقات العسكرية. وطوال عقود من الزمن، اعتُبرت "المفاعلات الصغيرة المعيارية" تقنيات متخصصة. إلا أن التقدم في عمليات التصميم وتنامي الدعم الحكومي لها، إلى جانب تزايد الحاجة إلى الكهرباء في جميع أنحاء العالم، أسهمت في رفع مكانتها وتضاعف أهميتها. وتتيح المفاعلات الصغيرة بأحجامها وأشكالها المتنوعة، على عكس المفاعلات التقليدية الكبيرة، مرونة أكبر، وهو ما يمكنها من تلبية المتطلبات الأصغر حجماً في مجال الطاقة وتنفيذ التطبيقات الأكثر تخصصاً ضمن تنويع واسع من المواقع الجغرافية.
كما يمكن للعمليات المبسطة والجداول الزمنية الأقصر في مهمات بناء المفاعلات الصغيرة المعيارية أن تسمح للبلدان المستوردة بتجاوز عدد من التحديات المالية واللوجستية الهائلة الكامنة في مشاريع بناء محطات الطاقة النووية التقليدية. وقدر الخبراء في هذا الإطار أن يستغرق بناء المفاعلات النووية الصغيرة ما بين ثلاثة وستة أعوام مقارنة بالأعوام الـ10 أو أكثر التي يتطلبها بناء المفاعلات التقليدية.
إذا حققت مشاريع المفعلات النووية الصغيرة الجارية بالفعل في الصين وروسيا نجاحاً في توسيع نطاق الوصول إلى الطاقة النووية بكلفة أقل، فإن ذلك قد يؤدي إلى زيادة جاذبية المفاعلات النووية الصغيرة المعيارية بالنسبة لبلدان الاقتصادات الناشئة الساعية إلى اقتحام القطاعات التي تستهلك الطاقة بكثافة، مثل قطاعات الصناعة ومراكز البيانات.
كما يمكن للمفاعلات النووية الصغيرة أيضًا القيام بمهمات وخدمات تعجز عنها محطات الطاقة النووية التقليدية. وتستطيع بعض التصميمات المتطورة من تلك المفاعلات الصغيرة تسجيل درجات حرارة أعلى في التشغيل، مما يجعلها قادرة على توليد الحرارة اللازمة للتطبيقات الصناعية، مثل صناعة الصلب وإنتاج الأمونيا المستخدمة في الأسمدة. وهذه الاستخدامات شديدة الأهمية، حيث استحوذ القطاع الصناعي في العام 2022 على نحو 37 في المائة من الاستهلاك العالمي للطاقة.
ما يزال بعض المحللين متشككين في جدوى المفاعلات الصغيرة المعيارية، ويشيرون إلى تاريخ المشاريع النووية التقليدية التي شهدت تكاليف باهظة وتأخيرات كبيرة في التنفيذ. لكن الصين وروسيا تؤمنان بأن هذه المفاعلات ستحدث تحولاً في سوق الطاقة: بفضل الاستثمارات الضخمة، تأمل الصين في تصدير 30 مفاعلاً إلى دول شريكة في مبادرة "الحزام والطريق" بحلول العام 2030، بينما تطمح روسيا إلى الاستحواذ على 20 في المائة من سوق المفاعلات الصغيرة عالمياً. ومع تزايد الطلب العالمي على الكهرباء، ستتزايد أيضاً القيمة الاستراتيجية للطاقة النووية التي توفر كثافة طاقة أعلى بكثير من المصادر الأخرى. وتستطيع كبسولة واحدة فقط من وقود اليورانيوم توليد طاقة تعادل ما ينتجه طن من الفحم، أو 149 غالوناً (563 ليتراً) من النفط، أو 17 ألف قدم مكعبة من الغاز الطبيعي.
تراجع نووي
تسهم حزم التمويل الشاملة وعمليات الإنتاج الفعالة التي تقدمها بكين وموسكو في جعل الطاقة النووية أكثر توفراً بالنسبة للدول النامية. لكن هذه الحزم (اتفاقات التمويل والإنتاج) تطرح أخطار خلق اعتمادات طويلة الأمد تضمن بقاء البلدان المستوردة للطاقة مدينة للصين وروسيا ومعتمدة عليهما من ناحية خبرات التشغيل على مدى عقود. ولكن على الرغم من خطر التبعية هذا، فإنه ليس أمام الاقتصادات الناشئة -وأيضاً الدول المتقدمة التي تريد توليد مقدار أكبر من الطاقة النووية- سوى القليل من البدائل المقنعة للطاقة النووية الصينية والروسية. وقد وقعت شركة "نوسكيل باور" NuScale Power الأميركية اتفاقات لبناء ونشر مفاعلات نووية صغيرة في غانا ورومانيا، بيد أن هذه المشاريع ما تزال في مراحل التخطيط. وهناك شركة أميركية أخرى هي "ويستينغهاوس" تقوم بمساعدة بولندا في بناء محطتها الأولى لتوليد الطاقة النووية. لكن الجهود المذكورة تبقى متخلفة كثيراً عن الجهود التي بذلتها بكين وموسكو في هذا المجال.
على الرغم من أن بعض الكفاءات الفريدة تسهم في مساعدة الحكومات المركزية الرسمية لتسريع مشاريع الطاقة، إلا أنه ليس هناك سبب جوهري يمنع الولايات المتحدة وحلفاءها من دعم تطوير وإنتاج وتصدير المفاعلات النووية بمعدل ينافس معدل غريمي الغرب السلطويين (الصين وروسيا). كانت الولايات المتحدة، منذ ستينيات القرن الماضي ولغاية تسعينياته، قد وفرت مقداراً كبيراً مما تطلبته السوق النووية العالمية من عمليات تصنيع وتصميم المفاعلات والخبرات لتشغيل سلاسل الإمداد، إلا أن نماذج التمويل الطموحة والمدعومة من الدولة في الصين وروسيا تفوقت على الشركات الأميركية. وتتحمل سياسات الحكومة الأميركية بعض المسؤولية في هذا الجانب، إذ أدت قوانين التصدير التي فرضتها إلى إقامة حواجز مرهقة أمام البلدان المهتمة بشراء المفاعلات الأميركية. وقبل أن تقوم الولايات المتحدة بنقل التقنيات والمواد النووية إلى دولة أخرى، فإنها تطالب تلك الدولة الشريكة بتوقيع اتفاق تعاون سلمي في مجال الطاقة النووية، معروف باتفاق 123. ويشدد هذا الاتفاق على الالتزام بضمانات صارمة لمنع الانتشار النووي، لكن واشنطن تسعى في كثير من الأحيان إلى الحصول على التزامات إضافية، مثل مطالبة الشركاء بالتخلي عن عمليات تخصيب اليورانيوم الخاصة بهم، أو التخلي عن إعادة تدوير ومعالجة الوقود المستهلك. وهذه متطلبات وشروط يمكن أن تقلل من جاذبية التكنولوجيا الأميركية بالنسبة للمشترين المحتملين.
تشكل قلة الكفاءة التنظيمية في الولايات المتحدة عقبة أخرى أمام التقدم في هذا المجال. وعلى سبيل المثال، تحتاج الهيئة التنظيمية النووية في الولايات المتحدة في غالب الأحيان إلى خمس سنوات أو أكثر حتى تصدر موافقتها على مشروع مفاعل نووي. وهي تفرض في السياق هياكل رسوم مرهقة على المتقدمين بالمشروع. ويشكل مفاعل "هيرميس" التابع لشركة "كايروس باور" المفاعل النووي الصغير الوحيد المرخص الذي يجري بناؤه راهناً في الولايات المتحدة. ويعكس هذا المنحى البطيء في مجال إنتاج المفاعلات النووية الصغيرة التحديات المؤسسية المزمنة التي تواجه "الهيئة التنظيمية النووية"، التي تتضمن تتضمن ثقافة داخلية تجهد نفسها للتماشي مع نزعات الابتكار.
ليس السباق لتوفير الطاقة النووية المتطورة اليوم مجرد منافسة تكنولوجية من الناحية الرمزية، بل هو صراع جيوسياسي من أجل النفوذ والقدرة على المنافسة الاقتصادية في عالم تزداد حاجته إلى الكهرباء بسرعة كبيرة. وفي هذا الإطار، سوف تكسب بكين وموسكو، وبشكل مطرد، مزيداً من عناصر القوة الناعمة مع تحفيز البلدان التي لديها اتفاقات طاقة نووية معهما على التوافق مع طموحاتهما الاقتصادية ومثالهما السياسي. وهو ما أخذ يحدث سلفاً. وعلى سبيل المثال، تعمل شركة "روساتوم" على زيادة قدرات هنغاريا في إنتاج الطاقة النووية، فتسهم هذه الطاقة الآن في توليد نحو 44 في المائة من كهرباء البلاد. وكان رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان قد عارض بشدة بعد غزو روسيا لأوكرانيا في العام 2022 إدراج الطاقة النووية الروسية ضمن عقوبات الاتحاد الأوروبي على القطاعات الإنتاجية الروسية، وحقق إعفاء للقطاع.
في المستقبل، قد تتمكن الدول حتى من استخدام نفوذها على المفاعلات التي شيدتها لإكراه أو معاقبة الدول المستوردة من خلال إيقاف تشغيل تلك المفاعل أو وضع اليد عليها. وهو خطر له سوابق. ففي العام 2014، قامت روسيا بإيقاف إمدادات الغاز إلى أوكرانيا لأشهر عدة بعد ضمها شبه جزيرة القرم، مما تسبب في خسائر اقتصادية واضطرابات اجتماعية. والكهرباء، على عكس "الوقود سي" (المستولد من الفحم الذي يحوي كمية عالية من الكربون)، لا يمكن تخزينها، مما يجعل إغلاق محطة توليد الطاقة النووية مدمراً بالنسبة لشبكة كهرباء البلاد ولاستقرارها الاقتصادي.
ليست الولايات المتحدة البلد الوحيد المتخلف عن الركب ضمن هذا السباق العالمي؛ ثمة قوى كبرى أخرى لديها صناعات نووية متقدمة، ولم تبذل هي أيضاً جهداً كافياً لإتاحة التمويل المناسب ونماذج المشاريع الجاهزة التي تحتاج إليها البلدان النامية. وتطلب "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، بدورها، من الدول المنضوية في عضويتها أسعار فائدة أعلى وفترات سداد أطول مما تطلبه الصين وروسيا لقروض المشاريع النووية. وترفض معظم مؤسسات تمويل التنمية متعددة الأطراف، مثل البنك الدولي، المساهمة في تمويل بناء محطات الطاقة النووية. وهكذا تجبر كل هذه الحواجز والمعوقات الدول النامية على الالتفات إلى برامج التصدير النووي الصينية والروسية.
تشغيل الطاقة
تتطلب مهمة الحفاظ على التوازن الجيوسياسي في سوق الطاقة النووية من الولايات المتحدة وحلفائها اعتماد استراتيجيات ذات أبعاد أكثر تنافسية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمفاعلات الصغيرة. وكان الكونغرس الأميركي قد أقر في تموز (يوليو) 2024 "قانون أدفانس"، الهادف إلى تحديث الضوابط النووية وتسريع عملية الترخيص ودعم أعمال بناء المفاعلات المتطورة ونشرها. ويتطلب هذا القانون من "الهيئة التنظيمية النووية" الأميركية القيام بتحديث إطارها التنظيمي، وتشريع التمويل لتحقيق تلك الأهداف. ويقدم هذا القانون بداية جديدة، وعلى الكونغرس استخدام أحكامه لإيصال الجهود المبذولة لتطوير المفاعلات النووية الصغيرة (والمتوسطة) إلى حدها الأقصى. وعلى "الهيئة التنظيمية النووية" النظر في اعتماد مرونة أكبر في أسلوب التفاوض على شروط التخصيب وإعادة المعالجة والتدوير. بدلاً من الإصرار على تنازل الشركاء بصورة كاملة عن تلك الأدوار والأنشطة، يمكن لواشنطن أن تسمح لهم بممارستها تحت رقابة صارمة لتوازن بين أهداف منع الانتشار النووي وبين الحاجة إلى المنافسة في سوق التصدير في هذا المجال.
لكن هذه الخطوات لن تكون كافية. وتتمثل المشكلة الأساسية بالنسبة للدول الغربية في كيفية معادلة كفاءة البناء والتمويل اللتين تقدمهما الصين وروسيا اليوم، أو التفوق عليهما. كان تود موس، المحلل في مجال الطاقة نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، قد اقترح في العام الماضي أن يقوم "البنك الدولي" بتعيين خبراء يمكنهم تقييم مستوى الطاقة النووية ضمن مزيج الطاقة في البلدان المتلقية. لكن هذه الفكرة ستظل تواجه على الأرجح معارضة مساهمين في البنك الدولي ممن يعارضون الطاقة النووية. في المقابل، وعلى نحو منفصل، انطلقت مبادرة مقترحة لتسهيل تمويل مشاريع الطاقة النووية وجعلها أكثر تنافسية، هي مبادرة "البنك الدولي للبنى الأساسية النووية"، وبدأت العمل على نطاق واسع جداً عبر الطلب من 50 بلداً إنشاء مؤسسة مالية جديدة تماماً، لكن هذه المبادرة توقفت الآن.
سيكون من الأجدى، في هذا الإطار، إنشاء تعاونية عالمية للطاقة النووية يمكنها، كي تنطلق، تنسيق السياسات ضمن مجموعة سياسية صغيرة متحالفة، مؤلفة من دول مؤيدة لاستخدام الطاقة النووية وملتزمة بتسريع صادرات الطاقة النووية الاستراتيجية. وقد بدأت الشراكات القائمة اليوم في المجال النووي، مثل "سابورو 5" -التي تضم كندا وفرنسا واليابان وبريطانيا والولايات المتحدة- سلفاً في تعزيز وتنويع سلسلة إمداد الوقود النووي العالمية. وثمة حاجة ماسة إلى حالات تعاون مماثلة لبناء محطات طاقة. ويمكن تنسيق حالات التعاون تلك من خلال وكالة جديدة أو هيئة منبثقة عن مؤسسة قائمة، مثل "الوكالة الدولية للطاقة الذرية". كما ينبغي لهذا التعاون الاستفادة من نقاط القوة التي تتمتع بها كل دولة، كالاستفادة مثلاً من تفوق كندا في مجال استخراج وتعدين اليورانيوم، وكذلك من الإمكانات الضخمة للولايات المتحدة في تصميم المفاعلات النووية الكبرى. وبوسع صيغة التعاون هذه أيضاً أن تعزز القطاع النووي المحلي في كل دولة عضو في الشراكة -بما في ذلك تعزيز قدرة كل دولة على حدة في مجال تطوير المفاعلات النووية الصغيرة- من خلال تشجيع تبادل الخبرات والبنى الأساسية. كما سيكون من شأن ذلك التعاون ضمن الشراكات أن يوفر للمنخرطين فيه القدرة على إصلاح أطر عمل التمويل التنموية التي تستبعد مشاريع الطاقة النووية من برامجها.
يمكن لهذه المنظمة أو الصيغة التنظيمية أيضًا أن توفر تمويلات وتكنولوجيات تنافسية، مصممة خصيصاً للدول النامية وقادرة على مزاحمة العروض الصينية والروسية. وتستطيع الديمقراطيات، من خلال توحيد نقاط قوتها وتكثيفها، المساعدة في التعامل مع الطلب المتزايد على الطاقة في دول الاقتصادات الناشئة، وذلك بالتوازي مع تعزيز أمنها الخاص في مجالي الطاقة والاستقلال الدبلوماسي. حتى أن عقود الطاقة النووية واتفاقاتها التي تتوصل إليها هكذا منظمة يمكن أن تتفوق على تلك التي تقدمها الصين وروسيا، إذ بوسع تلك العقود أن تمنح الدول النامية دوراً أكبر في تشغيل مفاعلاتها، وهذا يشمل استثمار مزيد من الموارد في تدريب القوى العاملة المحلية ومساعدة الدول المستوردة في تأسيس أطر تنظيمية قوية لقطاع الطاقة النووية. ويمكن للمنظمة التعاونية، أيضاً، أن تعمل على تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز دعم شركات التكنولوجيا النووية المتقدمة الخاصة لتسريع وفورات الحجم، وما ينتج عنها من انخفاض في التكاليف. ومن شأن التعاون في مجال الطاقة النووية أن يمنح الغرب محفلاً أساسياً لمواصلة التأثير في ضمانات منع الانتشار النووي من خلال خلق معايير تصدير تكنولوجية أكثر توازناً، تحافظ على الأمن النووي من دون ردع المشترين.
سوف يظل بإمكان الدول النامية أن تقرر الحصول على تقنيات الطاقة النووية من الصين وروسيا، لكن هذه الدول تحتاج إلى أن تمتلك القدرة على أن يكون لديها خيار حقيقي. وما تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها يملكون الفرصة لمواجهة وموازنة نفوذ الصين وروسيا المتزايد في مجال الطاقة النووية. لكن الأخطار تتزايد يومياً، وسوف تحدد القرارات التي تتخذها واشنطن وحلفاؤها اليوم، في مطلع العصر النووي الجديد، اتجاه أمن الطاقة والاقتصاد العالمي وشكل السلطة في العقود والأعوام المقبلة.
 
*جوزيل لويد: باحثة في مجال تكنولوجيا الطاقة والبيئة في "مختبر لورينس بيركلي الوطني". في العام 2024، أصبحت زميلة باحثة في قسم "النساء القياديات في قطاعي الطاقة والمناخ" بمركز "المجلس الأطلسي" للأبحاث. هذا المقال مترجم عن "فورين أفيرز"، حيث نشر في 28 نيسان (أبريل) 2025.