بلقيس العبادي.. الفنانة التي حولت الحناء من زينة الأعراس إلى ذاكرة وطن
الدستور - رنا حداد
على سفوح جبال البلقاء، حيث تُعانق الأزقة القديمة بيوت الحجر الأصفر، تقف مدينة السلط شامخة بتاريخها العريق وثقافتها التي حافظت عليها الأجيال بفخر. هذه المدينة التي دخلت قائمة التراث العالمي لما تحتضنه من مبانٍ مميزة وتراث اجتماعي متجذر، ما تزال حتى اليوم قادرة على إنتاج قصص جديدة تُضاف إلى سجل إرثها الطويل. وفي قلب شارع الخضر، أحد أهم شوارع المدينة التاريخية، وُلِدت مبادرة فنية استثنائية تُعد الأولى من نوعها في الأردن: متحف الحناء التفاعلي الذي أسسته الفنانة الشابة بلقيس العبادي، ليكون منصة لتخليد التراث غير المادي الأردني، وإحياء الممارسات المرتبطة بالحناء بطريقة معاصرة وجاذبة للسياح.
بلقيس العبادي بدايات
موهوبة وجذور فنية
بدأت رحلة بلقيس مع الفن منذ طفولتها المبكرة، حين كانت والدتها – الحرفية التي تعمل في صناعة القش والخزف وإنتاج الأدوات المنزلية – تفتح أمام ابنتها أبواب الإبداع. نشأت بلقيس في بيئة تحتفي بالحرف اليدوية، تشاهد وتتعلم وتقلّد، لتصبح يدها مألوفة على خطوط الرسم وألوان الطبيعة.
بدأت العبادي تنطلق في عالم الرسم بالحناء بشكل احترافي، فوجدت نفسها وسط حفلات الزفاف والمناسبات الاجتماعية تمارس هذا الفن التقليدي بروح شابة. ثم سرعان ما أخذ شغفها يتطور ويتوسع، فانتقلت من رسم الزخارف على الأيدي إلى الرسم على القماش، لتُحوّل الحناءK بمزيج ألوانها الحمراء والبنية والسوداءK إلى لوحات فنية قادرة على تخليد المباني التراثية والأزياء الشعبية وتفاصيل الحياة اليومية في مدينة السلط.
الحناء بالنسبة لبلقيس لم تكن مادة للزينة فقط، بل وسيلة لسرد حكايات المكان. تقول إنها اختارت اللونين البني والأحمر لأنهما الأقرب إلى لون الحجر الأصفر الذي تتميز به مباني السلط القديمة، فكان اللون جزءًا من الهوية قبل أن يكون جزءًا من اللوحة.
من إدارة الأعمال إلى رائدة فنون التراث
على الرغم من شغفها بالفن، تابعت العبادي دراستها الأكاديمية في تخصص إدارة الأعمال في الجامعة الأردنية. هذا التوازن بين العلم والموهبة قادها إلى تأسيس مشروع ريادي يجمع بين الفن والتراث، ويهدف إلى تمكين الشابات اقتصادياً واجتماعياً.
بدأ المشروع عام 2016، وكان موجهاً لإنتاج منتجات تراثية وسياحية تستهوي زائري مدينة السلط وتتيح للفتيات فرصة تعلم حرف يدوية وتحقيق دخل مستدام. بمرور الوقت، أصبح المشروع ورشة عمل نابضة بالنشاط، يُقدم تدريبات متنوعة على فنون الحناء والرسم والخزف وصناعة السلال والصابون والشمع وغيرها من الحرف التقليدية.
انضمت بلقيس إلى مشغل والدتها ,هناك بدأت سلسلة من الدورات التدريبية التي استهدفت الفتيات والسيدات من مختلف الأعمار. بعض الدورات كان مجانياً بهدف دعم المجتمع المحلي، وأخرى كانت متقدمة ومتخصصة بمقابل رمزي يعزز استدامة المشروع. بهذه الرؤية، لم يكن الفن مجرد غاية، بل وسيلة لتمكين المجتمع وإحياء الموروث الشعبي.
ولادة فكرة المتحف حلم يتحقق
في ظل هذا الحراك الفني، ولدت لدى بلقيس فكرة مختلفة وجريئة: إنشاء متحف كامل مخصص للحناء، ليس كعرض تقليدي، بل كتجربة تفاعلية شاملة تُمكن الزائر من التعرف على الممارسات والعادات المرتبطة بالحناء في الأردن بطريقة مبتكرة.
ومع الدعم المؤسسي والشراكات المجتمعية، أصبح الحلم واقعاً. وافتُتح أول وأكبر متحف تفاعلي للحناء في الأردن، أفتتح المتحف بحضور شخصيات رسمية من مديرية ثقافة البلقاء، ومديرية سياحة البلقاء، وهيئة شباب كلنا الأردن، إضافة إلى ممثلين عن المجتمع المحلي.
ويُعد هذا المتحف الأول من نوعه في المملكة، من حيث تصميمه ورسالته وهدفه في توثيق التراث الثقافي غير المادي المرتبط بالحناء، خصوصاً في مدينة السلط التي طالما اعتُبرت مركزاً للتقاليد الاجتماعية العريقة.
تصميم يروي سبع تجارب سياحية تفاعلية
جاء تصميم المتحف ليعرض سبع تجارب سياحية تفاعلية تسمح للسائح بالتعرف على مختلف الممارسات المرتبطة بالحناء في الثقافة الأردنية. هذه التجارب لا تقدم معلومات فقط، بل تمنح الزائر فرصة العيش داخل تفاصيل الطقوس الشعبية.
تشمل التجارب التعرف على تاريخ الحناء واستخداماتها التقليدية مع عرض وثائقي يشرح كيف كانت الحناء جزءاً من مناسبات الفرح والولادة والضيافة. وتجربة حسية للتعرف على أنواع الحناء وروائحها باستخدام عينات من الأحمر والأسود والبني. ومحاكاة ليلة الحناء التقليدية بديكورات وصوتيات تنقل الزائر إلى الأجواء الأصيلة لمناسبات الأعراس الأردنية. الى جانب ركن التصنيع الحرفي حيث يتعرّف الزائر على صناعة السلال والصابون والشمع، وهي الحرف التي تُدرّب عليها العبادي وزميلاتها.
ويخدم المتحف مستفيدين مباشرِين من سكان شارع الخضر، إضافة إلى أربعة عشر مستفيداً غير مباشر، في تعزيز السياحة المجتمعية وتوفير فرص اقتصادية جديدة.
مشروع بأيدي نساء السلط ورسالة تتجاوز الفن
ما يميز المتحف أنه صُمم بالكامل بأيدي بلقيس العبادي، من الفكرة إلى التنفيذ، في خطوة تعكس رؤية الفنانة في جعل الفن في خدمة التراث. المتحف ليس مجرد مكان للعرض، بل منصة لتعزيز الهوية الأردنية وتدوين الممارسات الشعبية التي تُعد جزءاً من التراث الثقافي غير المادي.
وبحسب الحضور الرسمي خلال الافتتاح، يُمثل المتحف نموذجاً للشراكة بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة، إذ تُبرز وزارة الثقافة ومديرية سياحة البلقاء أهمية هذا النوع من المشاريع التي تجمع بين الثقافة والسياحة والتنمية المحلية.
بلقيس من حناء العُرس
إلى توثيق ذاكرة المكان
تقول بلقيس أن والدتها كانت دائماً مصدر إلهام لها، فهي تعمل في الحرف اليدوية منذ أكثر من 21 عاماً، وكانت أول من شجعها على خوض عالم الرسم. واليوم، تعود بلقيس بفضل متحف الحناء لتضيف لبنة جديدة في صرح التراث السلطِي، وتُحوّل الحناء من عنصر تقليدي إلى فن معاصر يعكس قصة المجتمع.
لوحاتها لا تنقل تفاصيل البيوت السلطية فحسب، بل تحتضن روح المكان بكل ما فيه من حكايات، أزياء، أفراح، وجغرافيا. وعبر المتحف، باتت تجربتها مفتوحة أمام الزوار من داخل الأردن وخارجه.
السلط مدينة تُعيد
تشكيل إرثها عبر الفنون
إن اختيار السلط لاحتضان أول متحف للحناء ليس صدفة، فهذه المدينة التي لطالما كانت مركزاً للحرف التقليدية والفنون الشعبية، ما تزال قادرة على ابتكار أساليب جديدة للحفاظ على إرثها. المتحف الجديد يضع السلط في خارطة السياحة الثقافية المعاصرة، ويعزز من وجود تجارب تفاعلية تجذب السائح العربي والأجنبي على حد سواء.
وبين أزقتها القديمة ومقاهيها الحجرية ومراكزها الثقافية، يضيف متحف الحناء لمسة جديدة تعيد الاعتبار لموروث اجتماعي لطالما كان جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية للأردنيين.
مشروع يحتفي بالهوية ويمنح الأمل
يأتي متحف الحناء في السلط ليُشكل نموذجاً لنجاح المبادرات الفردية القائمة على الشغف والهوية. مشروع وُلِد من حلم فتاة أحبّت مدينتها وفنها، فحرصت على توثيق ما تحمله الحناء من رموز وعادات وذكريات. وفي الوقت ذاته، يفتح المشروع آفاقاً للشابات من المدينة ومحيطها للانخراط في سوق عمل ثقافي إبداعي يعزز استقلالهن ويصون التراث للأجيال القادمة.
بهذا الافتتاح، تكتب السلط صفحة جديدة في سجل الفن والتراث، ويصبح المتحف خطوة رائدة تُعيد للحناء مكانتها، ليس بوصفها زينة تُستخدم في المناسبات فقط، بل فناً يوثِّق هوية المكان ويُخلّد ذاكرته.